“حسناء العيد” بقلم الشاعر خليل حمادة
( حسناء العيد )
أرصفةُ المدينةُ ومَحالهُا التجاريةُ تَعجُ بالناس وخاصة محال الحلوى ، فغداً العيد والاستعداد لاستقباله على أشدهِ ،
كنتُ جالساً مع بعض الأصدقاء في مقهى شعبي ،كلٌ رأسه إلى الأسفل يتصفح هاتفه وبين الحين والآخر نرفع رؤوسنا نتجاذب بعض الأحاديث الفايسبوكية والواتسآبية ،
بينما كنت أقلبُ صفحات الجريدةِ سرقَ بصري جَمالُ تلكُ الوضّحَاءِ العنقاء فارعةَ الطول تَلوكُ في ثغرها ابتساماتٍ بطعم العسل فتقذفها برؤوس أصابعها للناظرين سكاكر عيد،
لم تكن حسناءُ تنزلُ من سيارةٍ فاخرة بل كأنها حُوريةٍ نزلت من السماء بغفلة ،
خطفت قلوب المقهى بزبائنهِ قبل عيونهم فكان الجميعُ يرمقها بنظراته فلم يرتدُ طَرفُ أحدٌ إليه خوفاً من خسارة بعض وقتٍ في حضرةِ طلتها البهية التي لفتت الجميع شيباً وشبانا ،
وكانت ترسلُ بكلِ خُطوةٍ تخطوها باتجاه المحل التجاري الملاصق للمقهى تماماً عِطرا فريداً آخاذا،
كأنه صُنع في عمق البحار أو من كل فصول الربيع مجتمعه بزهورها فلم أعد أعلم أهو عطرها المفضل أم أنه عطر جسدها؟
كلما اقتربت أكثر اتضحت الرؤية فيُخيلُ لك أنك تشاهدُ كل دورتها الدموية وكل عضو داخل جسدها من شدة نقاء ونعومةٍ بشرتها ،
أما شعرها الاشقرُ كسنابلِ قمحٍ بذروتها يتطايرُ على كتف الحصاد ، كانت ترتدي فستاناً ليس كفراعةٍ طولها بل قَزماً قصيراً ، كان الأسود عليها عكس مانسمعُ عن أنه لون الحزنِ بل من شدة جمالها جعلته يبدو لونَ فرح وهي تَرتديه وكأنها البدرُ ليلةَ تمامهِ تلتفه عتمةُ الكوَانين،
دمدمَ أحدُ المُلتحينَ بجواري وهو يحدقُ بها بحقدٍ وغِل : وَيّحَكِ أيتُها المتبرجةُ العاريةُ الكافرةُ تباً لك وألفُ تب من شرٍ لك قد اقّترب لعمري إني أراكِ رؤى العين تتقلبينَ بالنارِ يافَاجرة على ظهرٍ وقلب ،
ومن كان معهُ هو الوحيد الذي ينظرُ باتجاهي بعد أن احّمرت وجنتاهُ وانفردت أشرعة ابتسامةٍ خجولةٍ من على ثَغره وكأنه يُريدُ القول: أنا لا أُكفرُ أحدً ولا أكرهُ فقد يكونُ لها عند الله أكثر من كُل من في المقهى فكم من كبيرٍ في الدنيا هو صَغيرٌ في الآخرة والعكسُ صَحيح فَعلي أن أغض بَصري بحبٍ دون حقد واكسبُ أجرَ غض البصر ولي ولها ربٌ يحاسبُ ،
أما أبا خالدُ ذاك الرجلُ السبعينيُ أبيض النيه خفيفَ الدمِ بدأ بالتغزلِ والتَلطيش:
لك يا أرض احفظي ماعليكي لك تطلعي على قبري يتابعُ مذهولاّ : لك أنت ملاك هَبط علينا من السماء أكيد مو بشر يتابع وعيناه لامست حسنها :
يقبش قلبي قبش الأبيض عالأسود شو طالع بيجنن،
وكانت تلتفت بابتسامةٍ وبعضُ خَجلٍ له من شدة تواضعها الذي يكسوها كَشعاعٍ وهيبة بنفس الوقت،
بدا الجميعُ وكأنهم في زَمهريرِ أواخر شُباط ينتظرون طلعة شمس آذار الدافئةَ العطرةَ بعد أن ولجت وغابت لبُرهةٍ داخل المحلِ التجاري بشغفٍ و عم الصمتُ المطبقُ المكان من رَبيعِ ماشاهدوا على أمل آمل أن لا تُطيل بعودتها …
ها قد خرجت تحملُ أكياساً من هنا وهناك فكم خُفنا من الأكياسِ أن تؤذي أصابعها،
ظننا أنها ستعودُ لتركبَ سيارتها بعد أن اشترت لوازمَ العيد فكانَ شوقنا لها ناراً وجمر يتقدُ قبل أن تفارقنا ،
حتى قبل أن تصعدَ لسيارتها شَعرنا وأن العيد بدون رؤياها كل هنيهةٍ ليس بسعيدٍ ،
فَبتنَا كُلنا تحت رحمةِ عشقها وأصعب العشق عشقُ الطرف الواحد فأصابتنا بسهامها القتالة ولم تُحيينا ،
فكبُر حُبها فينا كإشاعة عن حين غفلةٍ منا ،
وكانت المفاجأةُ عِندما تخطت سيارتها الفاخرةُ ذاهبةً إلى الجهةِ المقابلةِ للمقهَى ،
كان هناك رجلاً مُسنا يبحثُ بحاويات القُمامة عن مايسدُ به رمقه وعياله وذلك بتجميع بقايا الأ لمنيوم وأشرطة النُحاس وقطع البلاستيك ،
ومن ثم يبيعها وكان هذا الرجلُ دائم التردد الى هذه الحاويات خضراء اللون ،
وبعد أن وصَلت إليه أعطتهُ الأكياسَ التي اشترتها وأخرَجت من مِحفظتها مَبلغاً من النقود وأعطته إياها ثم طبطبت على كتفه وودعته بغمرة بعد أن تمنت لهُ عيداً سعيدا،
كانت بالنسبةٍ لهذا الرجل كغيثٍ جاء بعد سنين قَحطٍ ومَحل فلم تعد تسعه فرحته فذهب مُسرعاً مسروراً يحملُ أكياسه داعياً لها رافعاً أكف عيناه للسماء شاكراً ،
والضحكةُ تعتلي مُحياه ،
أما هي فقد عادت وركِبت سيارتها وغادرت بعد أن ودعتنا بابتسامةِ وإشارة تحية من خلف الزجاج،
جميع من في المقهى بقيَ صامتاً ينّظرُ بعضنا للبعض الآخر بدهشة! فكان درسا عملياً لايُنسى قبل وقفة العيد كأنها جاءت لتقول لنا لا تُكفروا لا تحتقروا ، لا تحكموا على الناسِ من خلال مايرتدي من ثياب ،
مافائدة أن ترتدي الثياب وتخلع الحياء؟
مافائدة أن ترتدي الثياب ولا ترتدي خُلقا عظيماً وتسترُ به عورات تصرفاتك؟
مافائدة أن ترتدي الثياب وتخلع الدين ولاتشعرُ باليتيم ليلة عيد الله ؟ فالدينُ الخُلق قبل أيّ شيء
ليتنا كما نطلق بصرنا على أجساد النساء أن نُطلق بصرنا على وجوه الفقراء ولا نغضه .