أدب وفن

الكتابة_المرهقة

الروائي عمر سعيد

كثير من الذين يرهقون أنفسهم لبلوغ فكرة ما عند الكتابة.
وهذا ليس عن خبرة عشتها بتاتًا خلال الكتابة، بل إن النصوص التي يخلفوها أولئك وراءهم تقول للقارىء ذلك.
إذ يبدو على تلك النصوص الكثير من التفكك والتيه والارتباك ومحاولات التماسك غير المجدية.

وهنا أتذكر..
حين كان الفقر المدقع ينهشني، وكنت قد عدت خريجًا من بغداد، وقد حصلت على أول وظيفة في لبنان، كلفتني الإدارة بتنظيم جلوس الضيوف في المسرح ذات لقاء، ولأني كنت عريانًا إلا من عزمي وطموحي؛ قصدت صديقًا لاستعارة ملابس، فأعطاني بدلة عرسه.
عدت أطير من الفرح، وصلت البيت، فتحت الكيس، كانت عبارة عن جاكيت أسود قصير إلى محاذاة أسفل الرئة وحزام قماشي أخضر عريض مثنى يغطي البطن حتى أسفل القفص الصدري، وبنطال بدكة مطاط بلا سحاب للذكورة، وبخط أبيض يخترق سواده من أعلى الخصر إلى أسفله.
فوضت أمري إلي الله، ولبست في اليوم المحدد تلك البدلة، ولأن شعري كان كما هو في صوري، مع غياب الشيب في الشباب، بدوت ك
“ألي خاندرو” الذي اشتهر في المسلسل المكسيكي أيامها “أنت أو لا أحد”

نزلت أنجز عملي، وكنت طوال الوقت كالديك المضروب على رأسه، أترنح مرة، وأتباهى أخرى، تارة أخفي وجهي إذا استعدت مشاعري، وأنا أقف أمام المرآة، كلما واجهتني عيون الناظرين، وطورًا أحاول التماسك لأني أنفذ مهمة جليلة ورسالة أؤمن بها.

في نهاية الحفل تقدم مني شخص، وسألني من أين حصلت على تلك البدلة؟!
فأخبرته أني استعرتها من صديق؟! فذكر اسمه بصيغة سؤال، وأكدتُ له صحة كلامه، فهمس لي:

  • قل له أن يعيدها لنا، فقد استأجرها منا منذ أكثر من شهر.

أعود إلى حال الكتابة كحالي في تلك البدلة المرهقة، فأقول:
إن الكتابة ليست واجبًا دينيًا يلزم الكاتب نفسه بآدائه، ولا نوبة حراسة في محرس عسكري في ليلة باردة على أطارف موقع ناء عن الدنيا، يقوم بها من تراوده فكرة الفرار من الخدمة الإلزامية ألف مرة في اليوم، ولا علاقة جسدية ينجزها ذكر انزلق بشهوته للزواج بامرأة بشعة أكبر منه عمرًا، وهو لا يحبها!

فالعلاقة مع الكتابة أشبه بعلاقة جنسية مع حبيب عشيق في الوقت نفسه، لا يمكن فيها الفصل بين الجسد والروح. لا بل وأمتع وأخلد، وأعمق اتحادًا بالذات والآخر.
ولا يذكرني بالكتابة المرهقة إلا أولئك الذين يدمنون قضاء شهواتهم مع من يتوفر في طريقهم، وبعد مساومات مضنية لتخفيف التكلفة.

الكتابة الممتعة هي الكتابة التي تشب فينا اشتياقًا خلال حلم، يوقظنا على فرح حقيقي، وإن لم نقبض عليه.

الكتابة الممتعة هي أشبه بملامح وجه أبي حين كان يسند ظهره للحائط، ليبدأ جدل سيجارته اللف، وقد أخذ يدندن عشقه المستعاد.

الكتابة الممتعة أشبه بما تبقى من ماء في كفي طفل بدأ يحاول تعلم احتواء الماء في زوره الصغير.

الكتابة الممتعة كآخر قطرة ندى على كرز الصباح، يحرمك بريقها المشتعل من التجرؤ على مسحها، لئلا تشوه ذلك الجمال.

الكتابة الممتعة هي ألا تكتب بكلك، وألا تفقد مهارة التنقل بين وعيك ولا وعيك خلال رحلة الغوص في الذاكرة والوجدان.

أما الكتابة المرهقة، فهي كحالي بالضبط يوم دخلت في ذلك الطقم، ديكًا دودخت رأسه مناقير الديكة الحاضرين..
وقد جعلت معظم الحاضرات في المسرح يغادرن اللقاء بحديث موحد شاع على ألسن المنطقة:
شفتي هذا اللي كان طالع متل ” ألي خاندرو بانديراس”
والكل يعرف من أنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى