أدب وفن

فضل مخدِّر عالمُ الدِّينِ الأديب المُثقَّفُ و المُثقِّفُ

 

(تحيَّة إلى ذكرى فضل مخدّر في أربعينَّة غيابه)

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

       لِلْمَرءِ أنْ يَكونَ عاِلمَ دِينٍ، مُتعمِّقٍ في مَوضُوعاتِ القِراءاتِ والأحادِيثِ، ومُنغَمِسًا في مَجالاتِ الفِقْهِ والشّرعِ؛ وَلَهُ كذلِكَ، أنْ يَكونَ شاعِرًا، مُقلِّدًا أو مُجدِّدًا، يهتمُّ لأفكارٍ معيّنةٍ ويَسعى إلى صياغاتٍ مرتجاةٍ أو محدَّدةٍ، ويتَّخذُ مِن الأدبِ، وسيلةً للتَّعبيرِ عمَّا في ذاتِهِ، والدَّعوةِ إلى ما يَعتقِدُهُ مِن أفكارٍ ويَتبنَّاه مِن مواقف؛ وله، كذلكَ، أنْ يَسير في رِكاب ما يزرعه الفِكْرُ ويُنتجُهُ القَلَمُ ويَسطَعُ مِن إشراقاتِ النِّقاشاتِ وعطاءاتِ الحِجاجِ بينَ أهلِ العَقلِ والتَّدّبُّرِ الثَّقافيِّ، ما يُحفِّزُهُ على اتِّخاذِ تَنشيطِهِ وترتيبِهِ والعملِ على إخراجِهِ ودعوةِ النَّاسِ إليهِ، رسالةَ وجودٍ في المُجتمع.

       إنَّ هذهِ التَّخصُّصاتِ معمَّقةٌ، متنوِّعةٌ في مجالاتها، مختلفةٌ في مراميها؛ إذ تَستلزمُ كلُّ واحدةٍ منها، تفرُّغًا معرفيًّا وتنفيذيًّا قائمًا بذاتِهِ، ناهيكَ عن أنْ يكونَ، هذا التَّفّرُّغُ، مُستقِّلاً بزمانِهِ ومكانِهِ. ومِن هنا، فإنَّ الجّمْعَ بينَ هذهِ التَّخُّصاتِ، يبدو ضَربًا مِن التَّحدِّي المّعرفِيِّ، الذي ما حَكى عن مِثْلِهِ تاريخُ الإنسانيَّةِ، إلاَّ مَع مَن اعتبرَهُم مِن العلماءِ المَوْسوعيين والأُدباءِ الشُّموليين والمُفكِّرين القادرين على استشرافِ الآفاقِ الواسعةِ والشَّاسِعَةِ مِن رِحاب العطاءاتِ الإنسانيّةِ الباذِخَة.

       لعلِّي لا أكونُ متجاوِزًا حدودَ الواقِعِ، أو مُقاربًا مجالاتِ المُبالَغَةِ والإطنابِ، إذا ما ادَّعيتُ أنَّ هذهِ التَّخصُّصاتِ التَقَت، جميعُها، في العالَمِ الذي بناهُ الصَّديقُ العزيزُ والأخُ الكريمُ والزَّميلُ الغالي، المرحومُ الشَّيخُ والشَّاعرُ والرِّوائيُّ والنَّاشِطُ الثَّقافيُّ، فضل مخدّر، لذاتِهِ وُجودًا وكَيانًا وهُويَّةً. وحقيقةُ الأمرِ، فإنَّ العزيزَ المرحومَ فضل، لَمْ يَكُن، أبدًا، نَسيجَ وَحدِهِ في جَمْعِهِ هذهِ الصِّفاتِ، في شَخْصِهِ على الإطلاقِ؛ وإنْ كانَ في هذا الجَمْعِ ما يُعتَبَرُ مِيزَةً ثقافيَّةً وَسِمَةً حضاريًّة لافتةً للنَّظرِ بامتيازٍ.

       لعلَّ ما يقودُ إلى بدايَةِ تَبيانٍ لهذا الحالِ، الإدراكُ بإنَّ فضل مخدّر ابنٌ وَفِيٌّ لِتُراثِ بيئَتِهِ في الجنوبِ اللُّبنانيِّ؛ التي ما أنْ يُطِلُّ المولودُ، مِن رَحِمِ أُمِّهِ، على الدُّنيا فيها، إلاَّ وتكونُ صرخَتُهُ الفاتِحَةُ في استِقبالِهِ الدُّنيا، مِن ضروبِ الشِّعرِ، وتَتوالى كَلِماتُهُ على مدارجِ وَعيهِ العَيْشّ، صُنوفَ بَلاغَةٍ وجمالَ بَيانٍ؛ كما تَتَجلَّى اهتماماتُ إِدراكِهِ لشؤون الحياةِ ومحصِّلاتِ الفِكرِ متأرجِحَةً بينَ تَنَقُّلٍ أخَّاذٍ في أقوالِ أكابِرِ أهلِ مَعرِفَةِ علومُ الدِّينِ ودراساتِ الفِقهِ وسُطوحِ الأحاديثِ الشّريفَةِ؛ مِن دونِ ما تَغافُلٍ، على الإطلاقِ، عن كِتاباتِ جماعاتِ الفِكْرِ السِّياسيِّ القَوْمِيِّ والأُمَمِيِّ والوُجودِيِّ، وحتَّى بعضِ ناسِ التّوجُّهِ البُرجِ عاجِيِّ؛ وأن يَبقى، كُلُّ هذا، مَشفُوعًا أَبَدًّ، بِالحِسِّ الثَّورِيِّ النِّضاليِّ، والعُمْقِ الجِهاديِّ القائمِ على مَسيرَةِ إمامِ الشُّهداءِ الحُسَيْنِ بن عليِّ، سِبْطِ رسولِ اللهِ مُحَمَّد بنِ عبدِ الله.

       بكلِّ بساطةٍ واضحةٍ، وبكلِّ بَيانٍ جَلِيٍّ، هذا هوَ فضل مخدّر؛ الذي عَرفتُهُ عن قُربٍ، طِيلَةَ سِنينَ مديدةٍ؛ عَبْرَ نَشاطاتِنا المُشْتَرَكَةِ في اتِّحادِ الكُتَّابِ اللُّبنانيين، يَومَ كُنتُ أمينًا عامًّا للإتِّحادِ، أَشْرُفُ بأنْ يكونَ فضل نائبًا لي؛ وخلالَ عديدٍ مِن فعالِيَّاتٍ ثقافيَّةٍ وأدبيَّةٍ، ومُمارساتٍ متنوِّعةٍ في ساحاتِ الدَّعوةِ إلى الموضوعاتِ الثَّقافِيَّةِ الوطنيَّةِ، في لُبنان، كَما في خارِجِه.

       لَئِنْ اختَصَّت اهتماماتُ فضل مخدّر، طيلةَ هذا العُمرِ، الوفيرِ العطاءِ والقليلِ السِّنين، الذي عاشَهُ بَيْننا ومَعنا، بِتَعَدُّدٍ قد لا يُضاهى، وتَنَوُّعٍ قد يَصعُبُ تَحدِّيهِ؛ فإنَّهُ ما كانَ إلاَّ ناجِحًا في كلِّ اندفاعٍ لهُ، أَقْدَمَ عَلَيْهِ؛ وما كانَ إلاَّ مِعطاءً في كلِّ ساحٍ للفِكرِ، صالَ فيهِ وجال.

       وَضَعَ فضلٌ الرِّوايةَ، ونَظَمَ الشِّعرَ، وقدَّمَ ما أَمْكَنَهُ في مجالِ الفَنِّ التَّشكيليِّ؛ ثمَّ كانَ لهُ أنْ يَزرَعَ مساحاتِ ما وُجِدَ فيهِ من عيشٍ اجتماعيٍّ، مؤسَّساتٍ ثقافيَّةٍ فاعلةٍ، تُشْرِقُ شموسُ عطاءاتِها على ناسِ بيئتِهِ وأهلِهِ وسائرِ بَني وَطَنِهِ ومناطِقِ هذا الوَطَنِ؛ فَتَبَوَّأ مَكانَةً سامِقَةً في دُنيا العَطاءِ الثَّقافِيِّ في لُبنان؛ كما أَغْنى مَكْتَبَةَ الأدبَ، بِأعمالٍ لهُ، سَتَبقى شاهِدَةً على بَذْلِهِ الجَماليِّ والمَعرِفِيِّ؛ وما كانَ، في كُلِّ وجودهِ، إلاَّ هذا المُثّقَّفُ والمُثّقِّفُ في آن.

بيروت، الأربعاء، 26 كانون الثَّاني (يناير) 2022.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى