عِنْدَما تَضِيعُ الطَّاسَة
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
يتركَّز الجَدَلُ الأكثر احتدامًا راهنًا، في بعضِ البيئاتِ السّياسيّةِ والوطنيّةِ في لبنان، ومنها، بشكلٍ خاصٍّ، بيئة “دائرةُ بيروت الانتخابيّةِ الثّانيةِ”، حيث حالُ هذا الجدلُ على أشُدّه وطغيانه، منه في أيِّ منطقةٍ أو دائرةٍ أخرى، حولَ صوابيّةِ المشاركةِ في الانتخابات النّيابيّةِ مِن عَدَمِهِ.
بعضُهُم يرى أنَّ المقاطعةَ واجبٌ؛ إذْ تحفظُ، بنّظّرِهِ، حدودَ الكرامَةِ الوطنيّةِ؛ بِعَدَمِ حَشرِ النَّاس في “لعبةٍ” تقع خارجَ نطاق قدراتهم العمَلِيّةِ على التَّقرير، وتُحَوِّلُهم إلى مُجَرَّدِ شاهد زُورٍ.
بعضُهم، يذهبُ إلى أنَّ المشاركةَ قد تُقَدِّمُ تَحقِيقًا ما للوجودِ؛ كما أنَّها يمكنُ أن تنأى بالقائمينَ بِها عن أيِّ تصنيفٍ تَهْمِيشيٍّ لهم، ضمنَ الوجودِ السِّياسيِّ الحاليِّ.
بعضٌ مختلفٌ، يَرى أنَّ الموضوعَ السِّياسيَّ، في هذهِ “اللُّعبة” الانتخابيِّةِ، قد صارَ بِرُمَّتِهِ، خارجَ حقيقةِ الرُّؤيةِ الوطنيَّةِ الجادَّةِ؛ ومِن هنا، فلا عَلاقةَ فِعلِيَّةَ، لهذا البعض، لا بالانتخاباتِ النِّيابيَّةِ ولا بِناسِها؛ كائِنًا مَن كانوا؛ إذْ يرتبطُ تفكيرُهِ السِّياسيُّ بِرُؤيةٍ إلى منهجٍ مختلِفٍ في بناءِ الوطن.
بعضٌ آخرٌ، يقف خارج جميع هذه الأمور؛ إذ يعتبر أنَّ فلسفةَ الانتخاباتِ النِّيابيَّةِ في لبنان، منذُ أنْ كانت، وعَبْرَ جميعِ القوانينِ التي جرى وضعُها لها، لَمْ تَنْجَحْ في تحقيقِ البُعدِ التَّمثيليِّ المأمولِ منها بالمفهومِ الدِّيموقراطِيًّ؛ بِقَدرِ ما تمكّنَ ناسُها مِن تحقيقِ أبعادٍ خاصَّةِ بهم، للإفادةِ المَنْفَعِيَّةِ لِمَصالِحِهِم الذَّاتِيَّةِ والآنِيَّةِ منها، لا أكثر ولا أقل.
أيًّا كان الرّأيُ، الذي يستندُ إليهِ كلُّ “بعضٍ” مِن هؤلاء، وأيًّا تَكُن الرّؤيا السِّياسيَّةُ، أو الوطنيَّةُ، التي تقود هذا “البعضُ” أو ذاكَ، إلى ما يراه؛ فهذا يقودُ إلى تقريرِ واقعٍ صارخٍ مَفاده:
١- أنَّ بوصلةَ تعامُلِ الشَّعبِ اللُّبنانيِّ، بِمَن فيهم ناسُ “الدَّائرة الانتخابيَّة الثَّانية في بيروت”، شأنٌ تتقاذفه رياحٌ سياسيَّةٌ مُتعدِّدةُ الاتِّجاهاتِ متباينتها، ومُتَنَوِّعَةُ الأَنواءِ متعارِضَتها؛ غير أنَّه شأنٌ شديدُ التَّعثُّرِ وَطَنِيًّا، إذْ يَقِفُ خارجَ نِطاقِ النُّضجِ الوَطَنِيِّ المُشتَرَكِ، فلا تَجْمَعُ بَيْنَ ناسِهِ أيَّةُ رُؤيةٍ وطنيَّةٍ واضحةٍ.
٢- إنَّ الرُّؤية إلى الانتخابات النِّيابيَّة في لبنان، أكانَ هذا على مستوى النّاخبين وكذلك المرشّحين؛ ومَعَهُم، بِدايةً، سائر المسؤولين عَن وَضعِ القَوانين الانتِخابِيَّةِ وتنفيذها؛ ما بَرِحوا يتعاملون مع العمليّة الانتخابيَّة ضمن بُعدها السِّياسيِّ الآنيِّ؛ مُتعامين، بِجدارَةٍ مُطلَقَةٍ، عن عُمْقِها الجَوْهَرِيِّ الوَطَنِيِّ.
إنّ مِن أبرزِ دواعي هذا العَبَثِ السِّياسيِّ، والضَّياعِ الوَطَنِيِّ، أنَّ اللُّبنانيين قَلَّ أنْ عرفوا الانتخابَ، في ما عاشوه مِن جولاتٍ انتخابيَّةٍ، عَبْرَ تاريخِ الجُمهوريَّة اللُّبنانيّة؛ بِقَدرِ ما خّبِروا، وبِكُلِّ تفانٍ مِنْهُم، أنّهم كانوا يُدلُون بأصواتِهِم لِصالِحِ مَن انتَخَبَهُ مُسْبَقًا لَهُم، زُعماءَ ونافِذون.
نَعَم، ثَمَّةَ بَوْنٌ شاسِعٌ وخطيرٌ بين ثقافةِ الانتخاباتِ، التي يكونُ السَّعيُ فيها إلى انتخابِ الشَّعبِ لِمَن يُمَثِّل رُؤاهُ ومصالِحهُ في النّدوة النّيابيّةِ للوَطَنِ، وتلكَ التي تَكونُ الغايَةُ الفِعلِيَّةُ مِنها تَمْثيلٌ باسمِ النِّيابةِ على الشَّعبِ، بِناءً على تَعدادِ أصواتِ المُوافِقين على انتخابٍ لِلْمُمَثِّلينَ، تحتَ قُبَّةِ النّدوةِ النِّيابيَّة، سَبَقَ أنْ حَدَّدهُ لهُم زَعيمٌ أو نافِذٌ.
لطالما عرفَ اللُّبنانيّون، في تراثِهم الشَّعبِيِّ المَقُولُ، مُصْطَلَحَ “ضاعِت الطّاسة”؛ ومُنْطَلَقُ هذا المُصطَلَحُ كانَ حِينَ تَختفِي الطَّاسَةُ، التي تُحّضَّرُ بِها المِياهُ المُناسِبَةُ للاستِخدامِ في الاستِحمامِ، بِخَلْطِ نِسَبٍ مُحَدَّدَةٍ مِن المِياهِ السّاخِنَةِ بأُخرى مِن تلكَ البارِدَةِ؛ فلا يُمْكِنُ، عِندها، اِنْجازُ الاستحمامَ بِما يُحَقِّقُ أهدافَه مِن نظافةٍ وراحةٍ.
واليوم، وبكلِّ تأكيدٍ، وضمنَ هذا الحالُ الانتخابيّ الرَّاهنُ، والذي لا يَخرُجُ عنهُ على الإطلاقِ، ما يحصلُ في “دائرة بيروت الانتخابيَّة الثَّانيةِ”؛ فإنَّ “الطّاسَةَ ضَايْعَة”؛ ولا بُدَّ، تاليًا، وقَبْلَ أيِّ أمرٍ آخر، وبعيدًا عَن أيِّ تحديدٍ لِعَداءٍ مَع هذا الفَريقِ أو ذاكَ، وخارِجِ أيِّ مَنْطِقٍ لِشّدِّ أيِّ عَصَبٍ طائفِيٍّ أو مَناطِقيٍّ أو سِياسِيً، مِن إيجادِ “طاسةٍ”، وأنْ تكونَ طاسةً صالحةً.
فَلْيَفهَمَ جميعُ اللُّبنانيينَ أنَّ أَموَالَهُم العامَّةَ قد نُهِبَت، وها هيَ أموالُهم الخاصَّةُ تَسيرُ بكلِّ ثقةٍ نحو التَّحلُّلِ والتَّبّخُرِ؛ وليُدرِكوا، بكلِّ ذرَّةِ وعيٍّ لدَيْهِم، أنَّ إداراتَهُم الرَّسميَةَ تُعاني شَلَلاً مُرِيبًا، كما أنَّ حُدودَهم البحرِيَّة تَتَأرجَحُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشَّمالِ، مُبتَعِدَةً عَن حقيقةِ مصالِحِهِم الوطَنِيَّةِ أو لاهِثَةً في مساعٍ للاقترابِ منها؛ وأنَّ أوضاعهم العامَّة، كما تِلكَ الخاصَّةَ، ما انفكَّت في تَدَهْوُرٍ مُرعِبٍ وانهِيارٍ لَنْ تُحمَدَ عُقبَاهُ؛ وإلّا، فَلْيَتَّعِظَ القَوْمُ بِما يَرِدُ في “إنجيل مَتَّى ٥:١٣” «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ”.