باقة نصوص/ أدب/ الشاعر تيسير حيدر

من ذِكرياتِ طُفولَتِنا البعِيدة المُبَيِّضُ
صَوْتُهُ المَبحوحُ جاءني الآنَ ،بعدَ أن ولَّى مُنذُ عُقود
الرَّجُلُ الضَّخْمُ كَجِذعِ سِنديانَةٍ مُعَمِّرة ،التَّجاويْفُ في قامَتِهِ ظاهِرة
الزَّمَنُ يَمْتَطِيهِ ولا يُفارِقُه
لِمَ انْهالَ عليهِ هَماً فَجَعَلَهُ من الحَطَب الجافِّ ناياً خَشِنَ الصَّدى ؟!
<<الكِيْرُ >>مُلْتَهبٌ كَقَلبي ساعَةَ الألَم ،وَوَهجُ النَّارِ يَقترِبُ من العُيونِ الطُّفولِيَّةِ المُراقِبة
نَحنُ الصِّغارَ جِئنا لِمُشاهَدَةِ <<المُبَيِّض>>
ثِيابُهُ مُدَجَّجَةٌ بالسّخامِ والغُبار ،حِذاءٌ قاسٍ يُصارِعُ الطُّرقاتُ الحَصَوِيَّةَ القَاسِية
غَرِيْبٌ يَقْصدُ قَريَتَنا ،يُلَمِّعُ الطَّناجِرَ والأدواتِ المَطْبخِيَّة،يُعِيدُ لَها العُمرَ الجَميل
الدُّخانُ المُنْبَعثُ مُكْرِبٌ يبعَثُ السُّعَالَ المُسْتدام
غَابَةٌ من الأبْخِرَةِ من مَواد مُلْتَهِبة وسامَّة تَتَطايَرُ في الغُرفَةِ الدَّبقةببَقايا الموادِ الكِيْماويَّة
تَعِبٌ هو كَشَجَرَةٍ تكادُ أن تَهْوي فَتَدْعَمها جُدْرانٌ هَرِمة
يَلِدُ الفَقْرَ في كُلِّ لَحْظَةٍ ،يَتْرُكُهُ لأطْفالِهِ زَادَ التُّعَساء !
الكِيْرُ :آلَةٌ قَديمةٌ تَنْفُخُ النَّارَ يَسْتَعملُها المُبيّضُ والحَدَّادُ !
أعشقُهُ …
هذا الماضي الذي أرهق شراييني
أنبت الشيب باكرا بين ازهار شَعري
كيف أنسى مرافقة قاطفات التبغ في الطرقات الترابية وقوائم الدواب تحفر عميقا ونثارها يعبق مع البوح وجمالات القلب ؟!
كيف أنسى سحر تلك الحياة البسيطة كينبوع يهذي الرَّيَّ والعطاء؟!
كيف أنسى العرَقَ وهو يتصبب من جبين أمي وهي تعجن والسراج يضيء جبهتها وزنديها كنجمة؟!
كيف أنسى والدي وهو يوقظنا الى القطاف قبل الفجر بحنان وردة الروح وجدي يقودنا إلى مرابع حقول التبغ والعتمة ضياع طريق؟!
ما أجملها وما أقساها وما الذَّ أن أعود الى عمر المراهقة كوردة جفَّتْ وعادت الى الجذور بنهم الخلود والعشق…!
عبَثاً يا شِعْرُ تُباري الشَّوقَ والحَنين …
السِّنْديانَةُ التي اغْتَسلَتْ بالمَطَر ،نَقِيَّة كَجَدَّتي بَعدَ الوضوء
فوَّاحَة بالعَبير ،الإخْضِرارُ ثَروَتُها ،أوراقُها تَبسِمُ
ماذا تَقولُ اللُّغَةُ في حَضْرَةِ هذا الإدْهاش؟!
تَنْحني العِباراتُ والفَواصِلُ والنُّقاطُ، وعَلاماتُ الإسْتِفهامِ تَغْزُرُ وتَنْدرُ الكَلِماتُ
قَصِيدةٌ للإنْفِعالاتِ فَقَط
كَيفَ تَستطيعُ أن تَرسمَ انْحِناءاتِ الغُيومِ وظِلَّها فوق الجَبل ؟!
هَل تَسْتطيعُ الجُمَلُ أن تُرَنِّمَ حَنينَ المَيازِيب أو رَفِيْفَ غَزارةِ غُيومِ الثُّلوج أو مُداعَبةَ البَرَدِ للإذُنين والوَجه ؟!
ثُمَّ مَن يَقْدرُ أن يُسَطِّرَ ما تَقولُهُ شَجَرةُ الزَّيتون التي تُعانِقُني الآنَ بأذْرُعِها ؟!
والعَصافيرُ ،ماذ تَقولُ لَو رَأتْني أجَالِسُ صَخرةً وتُعَلِّمُني التَّفاعِيلَ المَنْسيَّة ؟!
وقلبي هل تَقْدرُ مُوسِيقى الشِّعرِ أن تُرَنِّمَ عَذَاباتِه ؟!