أدب وفن

هكذا يصنع الرجال/ قصة قصيرة/ بقلم الروائي أحمد اسماعيل

هكذا يصنع الرجال

في الشوارع المنسية يحاول المساء عدم الاقتراب،
فيوسف مع موعد دائم لكبح جماح الضجر….
ها هو يسير والأفكار تتسابق حوله،
يا ترى كيف تصطاد ثقة يوسف؟
لكن عبثا تحاول، لأن شغفه يجعله يخترع صدفة مع نجار الموبيليا العم محمود،
فهو الوحيد الذي يعرف كيف المساء ينسى يوسف حين تلتهم هوايته موائد التعب،
و تحفر عميقا عميقا في جمال منحوتته التي يسعى من خلالها الفوز بمسابقة رواد الصف الرابع على مستوى القطر ، لم يترك للفراغ فرصة العبث به.
أحياناً يسأله العم محمود: هل أساعدك ؟
تحمر خدوده فيجيب :
وهل ما أصنع يستحق النظر ؟!
طبعا كل هذا لمداعبة عمه النجار وليحصل على قبلة تشعل همته التي تكاد تنطفئ مع اقتراب الليل،
يقبله العم محمود و يهز كتفيه قائلا :
فكر كيف تكون في القمة، وحده ذاك الشعور سيكون كفيلا بعصمتك من السقوط.
هذه العبارة ألهبت الإزميل والمطرقة في يده وجعلتهما أحن على قطعة الخشب لساعات وساعات،
لكن هناك من هو أشد رأفة به، فأثناء طرقه على الإزميل شاغله النعاس لحظة فطرقت المطرقة إصبعه الناعمة…
اسودت الدنيا في عينيه قبل أصبعه…
هرع العم محمود لمشاهدة إصبعه، وطبطب على ظهره وقال لاتبتئس فالمطرقة أعطتك فترة لتأمل المنحوتة أكثر في خيالك،
أغلق العم محمود الدكان وحمل يوسف فوق رأسه سائلا:
هل تعرف لم أحملك فوق رأسي ؟
فكر يوسف في عبارة تكون بقيمة العم محمود،
فقال: لأن هدير الإعلام سيغفل يوسف ويلاحق العم محمود،
يتمتم العم محمود :
ياترى هل أعوامه العشرة كافية ليقول كلاما عميقا كهذا،
ربما….
لكن بقي ثلاثة أيام، كيف ليوسف سحق الوقت بإصبع مصابة ؟
لم يكترث يوسف، نام والمنحوتة تزمزم التصور الأخير،
في الصباح تأمل أعمال رفاقه في المدرسة فآلمه إصبعه،
فقبلها ورفعها عاليا وقال:
أهدتني الحياة يتيما لملء حواس العم محمود المفجوع بأهله…
لذلك لن أتراجع، سارع إلى دكان النجارة لينحت بعض الإبتسامة على وجه العموم محمود،
تفاجأ بورقة على طاولة عمله ،اعتن بالدكان سأغيب يومين خارج المدينة،
لم يترك مجالا للتساؤلات، لأن الشغف انتهز الفرصة حتى تنفست المنحوتة اللمسة الأخيرة و قطرة عرقه تغمرها بريقا.
هاهو اليوم المرتقب، بعد لحظات تعلن النتائج، لم يكن العم محمود ليضيع الفرصة،
الصف الأول مكتظ، حاول التقدم ….
لكن قطعة الزجاج جرحت قدمه التي لم يقاومها نعله المهترئ، فجلس على يمين الجموع فوق رصيف يندب حظه.
نادته الأصوات ليتقدم إلى المنصة، وقف مكابرا على ألم قدمه، و سأل باستغراب: ما خطبكم؟
لماذا تصيحون باسمي؟
حمله الجميع وهم يطيرونه عاليا ويعيدونه إلى أحضان أكفهم،
حتى أوصلوه إلى المنصة التي رفض يوسف أن يستلم الجائزة إلا من يده، وبعد استلامها شاهد الجميع المنحوتة الفائزة،
صورة العم محمود ينحت بالإزميل على صورة رأس يوسف،
وأسفل المنحوتة نقش يقول: هكذا تصنع الرجال.

أحمد إسماعيل

شاعر و روائي- سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى