أدب وفن

تجليات التراث وصراع الوجود وانعكاساتها في أحلام د.نجمة خليل

تجليات التراث وصراع الوجود وانعكاساتها في أحلام

د. نجمة خليل

نزار حنا الديراني

يتجلى توظيف التراث في الأعمال الأدبية للقاصة الفلسطينية / اللبنانية د. نجمة خليل عمليّة إبداعيّة غنيّة ، توثّق العرى بين الماضي والحاضر؛ من خلال صورها الجميلة وكأنك أمام لوحات رسم تجسد من خلالها عن علاقة أدبيّة تناصيّة ، من خلال انتاجها لطاقات دلالية تمنح رؤيتها السردية خصوصية تعكس عملية التفاعل بينها وبين المكان بكل مكوناته والزمان في قصص مجموعتها ( جدتي تفقد الحلم وقصص أخرى ) التي أهدتني مشكورة نسخة من مجموعتها الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2018 وحيث تمثل شجرة الزيتون محور قضيتها في قصص مجموعتها هذه ، كون كلاهما يسيران بخطين متوازيين ، فشجرة الزيتون دائمة الخضرة وكما قضيتها الفلسطينية والتي ما تزال تعيش مع كل فرد فلسطيني أينما كان يعيش ، فقضيته دائمة الخضرة ما لم تحل مشكلة وجوده من خلال العيش في أرض أجداده .

منذ الوهلة الأولى تحس وأنت تتلمس الكتاب أمام قضية وجودية تتصارع مكوناتها بين الحلم والحقيقة ( تحقيق الحلم) من خلال عنونة مجموعتها والتي تحس من عنونتها (وهي عنوان لقصتها الأولى) ، اليأس من خلال فقدان جدتها بريق حلمها الجميل (قضيتها) والتي طالما كانت تحلم وتنتظر تحقيقه ، إلا أن هذا الحلم هو سلاح ذو حدين ، ربما هو أيجابي ففقدانه يعني سلبا على تحقيق مطامح شعبها … كقولها في قصتها (جدتي تفقد الحلم) :

( … في الحلم كان يرجع اليّ كل ليلة ، كأنه لم يمت ، كأنه كان مسافراً وعادت معه اللهفة والشوق و… في الصباح يذهب الحلم ويظل أثره كارتشافة خمر معتقة تسري في الأوصال … ) .

وهكذا في الكثير من أحلام قصصها كأن يحلم الشخص أن يكون ثريا أو شخصا مشهورا أو … كما في قصتها – عقدة مايكل – وفي الصباح يتلاشى كل ما كان حلماً .

وفي وجهه الآخر يكون سلبي ففقدانه يعني ايجابي بمعنى تحقيق مطامح شعبها ، كقولها في نفس قصتها ( جدتي تفقد الحلم) :

(حلمت يوماً أن أبني البكر قد مات … في الصباح بكيت بحرقة الأم الثكلى … في الصباح دخلت غرفة ولدي وتشممت ثيابه ومرغت وجهي فوق فراشه . رأيت نفسي أحبه حباً خالياً من الشوائب … )

ربما يعتقد البعض بأن هذه الازدواجية هي عبثية لدى القاصة ولكن حين التمعن في قصصها جيدا سيحس القارئ أنه أمام الصورة الحقيقية لوجهي حلمها ، فالوجه الأول يتمثل بجيلها الذي يحلم أن يعيش من جديد جمال طفولته إلا أن هذا الحلم قد شاخ لديه والمتمثل بيأس القضية بعض الشئ لدى جيل الأجداد والآباء حين ترك مسقط رأسه وبدأ يفكر بالهجرة نحو الغرب ( السفر الى بوسطن بدلا من لبنان او فلسطين ، وكما في قصتها (نصيب ) تقول :

( قررت أن تكون أسترالية ، تخلت عن الثوب الأنيق والكعب العالي ولبست السترة الرياضية … حزمت أقراص وأشرطة عبد الحليم وعمرو ذياب ونانسي عجرم في كيس نايلون وركنتها في زاوية مهملة . اشترت أغاني ألتون جون و….)

إلا أنك من خلال القراءة لقصصها ستحس وأنك أمام الوجه الأول كون حلم جدتها السلبي لم يتحقق لأن الجيل الصاعد والمتمثل لدى الأحفاد تنمو القضية لديه لذا سوف لا يحقق الوجه الأول للحلم ( يفقد وجوده بعد الاستفاقة) وهذا ينسجم مع اختيارها لرمزها في محور قصصها وهو شجرة الزيتون الدائمة الخضرة.    

مجموعتها هذه مكتظة بالأحلام وكما تقول في قصتها (عقدة مايكل ) :

( يبدو أنني عشت حلمي أكثر من اللازم …) .

حيث ترسم لنا القاصة بريشة فنية من خلال نصوصها ما حفظته ذاكرتها من تفاصيل الحياة اليومية بجدالاتها داخل الأسرة أو بينها وبين ظيوفها في مسقط رأسها حيفا أو في مخيمها في لبنان ، وكأننا نعيش الحدث ونتلمس تقاليد، وطقوس اجتماعية، وحيث الفقر وبساطة الحياة تملأ كل فراغات الماضي في هذه المخيمات من خلال وصفها للأدوات المستخدمة في البيت كقولها في قصتها( أنا وأبو عمار ) :

(كان موقد الغاز الصامت عادةً يهدر وكأنه موقد كاز (بريموس) قديم وكان لهبه عكراً وله رائحة نافذة …. استدرت الى حيث تضع الصحون مددت يدي لأخذ صحونا من الدستة التي على اليمين فأحسست أنها غير نظيفة . تركتها وأخذت من الدستة التي على الشمال. فإذ هي أيضا دبقة …. والتقطت قدرا يصلح للمناسبة . فرأيت غبارا عالقاً فيه . فتحت الصنبور كي أغسله فانساب الماء أسود وكأنه مياه مجارير ….) .

من خلال وصفها هذا تعكس القاصة في قصصها أحوال شعبها المتشرد والساكن في المخيمات والتي لا ينسجم وحجم عطاءه .

إن العودة إلى الموروث الشعبي هي السمة البارزة والتي ميزت قصص القاصة نجمة خليل، إذ يعتبر الموروث الشعبي من مكونات ذاكرتها وثقافتها فالموروث لديها جزء أساسي لا يتجزأ من كيانها كونه يمثل رمز أصالتها  وعنوان سيادتها .

من هنا جاء اهمية توظيف الموروث في قصصها كونه ذو أهمية كبيرة ، يتعلق بماضيها والذي هو صورة مصغرة لماضي شعبها.القاصة تهدف في توظيف تراثها لرسم خيط رفيع يربط حاضرها مع ماضيها من أجل اضفاء روح القداسة على قضيتها ووجودها .

كما هناك وصفاً دقيقا لشخصيات قصصها كوصفها لجدتها في قصة (ارث جدتي):

( ذلك الصباح رأيت جدتي واقفة مشدودة ورأسها مرفوعا بإباء نحو السماء ، كانت عيناها جامدتين لا تفصحان عن حزن أو غضب…)

من وصفها هذا تتلمس حجم المآسي التي مرت على جدتها ومع هذا تراها (شعبها) تقف شامخة ورأسها مرفوع الى الأعلى لايمانها وقدسية قضيتها ، حيث تتناص في قصتها هذه على مجزرة صبرا وشاتيلا لتعكس لنا ما حل ببلدتها وزيتونتها .

يعد التوظيف للموضوعات التراثية نوعا من أنواع التناص، وهو يتم بشكل مقصود ومتعمد، حيث يتم استخدام التراث لنقل الرؤى والأفكار المعاصرة .

 ويأتي بصيص الأمل في قصصها من خلال انعكاس قضيتها في الجيل الصاعد حيث ترسم لنا في (قصتها حشوة تراب ) خطين متعاكسين ، فالجيل الذي نما في قرية فلسطينية أو في مخيم فلسطيني في لبنان شاخت لديه القضية لذا تفكر الجدة والتي مسقط رأسها – كفر برعم – بالسفر من مسكنها في استراليا الى – بوسطن – بينما تفكر حفيدتها المولودة في أستراليا بلكنتها العربية المشوبة بالاسترالية بالسفر الى قرية جدتها  – كفر برعم – وهذا يعني لا تزال قضيتها حية وهي تتأمل أحفادها أن يسيروا بقضيتهم نحو الامام ويؤججوا النار من جديد في أحشاء الآباء والأجداد ليشاركوا الاحفاد في ثورتهم من اجل نيل حقوقهم .

فضلا عن وصفها للمكان كقولها في قصتها (غاري يذهب الى المستشفى ) :

(… أغرته شجرة التفاح التي تطل من النافذة الى الحديقة الخلفية الصغيرة . شجرة التفاح هذه تزهو ببياض زهرها المفاخر كعذراء تفتحت أكمام انوثتها على حين غرة….من فوق السياج بدت شجرة اللوز في حديقة جاره وادعة كابتسامة الملائكة …) .

إن الحضور القوي والمستمر لهذا الفضاء في المتن القصصي هو ترجمة واضحة للارتباط والعلاقة الحميمة التي كانت القاصة توليها لهذا المكان والارث من وطنها فهي دائما تحاول التركيز على الواقع المؤسف التي يعيشها المهاجر، فالمعيشة في هذا الفضاء المكاني غالبا ما تكون منحصرة في مجالات ضيقة ومحدودة .

كما ويحتل الحوار مساحة كبيرة في قصصها ، دائما هناك حوار بين الماضي المتمثل بجيل الاباء والاجداد وحيث القضية عندهم بدأت تنحسر وحيث الظروف القاهرة تفوق طاقتهم ، والحاضر المتمثل في جيل الشباب والفتيان الصاعد وحيث القضية بدأت تنمو وتنتشر في كل عروق جسدهم وفكرهم . ففي قصتها (شئ يشبه – الأخضر والأحمر – ) ترى الوالد الجالس مع صديقه يرتشف ألماً وهو يصف شعوره لصديقه الجالس معه وهو يرى من على الشاشة البلدوزرات تقلع أشجار زيتون قريته والتي هي رمز وجوده ، فيقول :

 ( أحس كأن هذه (البلدوزورات تمشي على جسدي وتقطع أوصالي …)

وهو يشتم قادته الذين يتفاوضون مع عدوهم … يخرج عليهم فتى صغير يجفف يديه بحماس بمنشفة صغيرة وهو يقول :

( خالي سيأخذني معه الى – تاون هول – سأشوف حنان عشراوي ، عظيمة هذه المرأة لو كان في مثلها كثير كنا ربحنا فلسطين )

هذا الصغير لا يزال يرى بصيص أمل بقادته عكس والده (جده) الذي بدأ يتشاءم من خلال شتم قادته وامتعاضه عن مسألة وجوده في المهجر (سدني) وقلبه يحن الى مسقط رأسه….

هذه الحوارات وإن كانت سفسطائية إلا أنها تعطي لقصصها الحيوية وتعكس واقع شعبها المرير وصراعه الدائم …  

إن اهتمام القاصة بالبعد الاجتماعي ورصدها لحركة الصراع القائمة بين جيلها وجيل حفيدها تمثل شكل من أشكال التحدي لقضيتها ووجودها من خلال التعبير عن رؤية ثورية واضحة  في الاجيال القادمة في مواجهة الزيف ومناصرته للحقيقة لأنه “التركة الفكرية والروحية التي تتوارثها الجماعة من الماضي مادة أو معنى، قابلاً للنمو والهيجان في كل لحظة” .

فضلاً عن الحلم تجد في قصتها ( أنا وجدتي) وصف للصراع بين الأحفاد والأجداد الذي تعانيه العائلة العربية في المهجر وحيث يحاول الآباء والأجداد رسم الطريق الذي يريدونه على مقاسهم لأحفادهم من حيث العادات والتعامل الهرمي في البيت والفخر بعروبتهم في حين الجيل الذي ولد في المهجر يشمئز من كل ذلك لا بل ينظر الحفيد لكل ذلك كونه شبه انفصام في الشخصية ، لانه يعرف الوطن البقعة الجغرافية التي يعيش عليها ويمارس حقوقه وواجباته ، فكيف تستطيع اقناع حفيدك كي يربط جذوره في وطن الأجداد وهو يرى الآباء تركوا أوطانهم وهم مهانون … كيف يقتنع بالقيم الشرقية وهو يجد والداه وجداه في حالة الطلاق وهم أول من نبذ عاداتهم وكما يقول الحفيد :

( … أبي يقول يحق لجدك أن يقول ما يشاء ولا يحق لك الاعتراض . هكذا نحن العرب نحترم كبار السن بيننا وفي النهاية لا أحد يحبك أكثر من جدك … عنما أكبر وأصير قادر على العمل في ماكدونالد ، سأقول له – اللعنة عليك نحن العرب – إذا كنت تصر على – نحن العرب – لماذا تعيش هنا ؟ لماذا طلقت أمي قبل أن أكمل عامي الأول؟…) .

فضلاً عن ذلك هناك مكاشفات فيما يدور داخل العائلة القادمة من المشرق بعاداتها وبلد المهجر أستراليا كما في قصتها (كم كان العبور صعبا ) وقصص أخرى تعالج مشاكل اجتماعية وكما الحال في قصتها (الضرة) والتي تطرح فيها ما معنى أن تكون للمرأة ضُرة …

ولا بد من الاشارة ان القاصة نجمة أبدعت في بعض من قصصها القصيرة جداً من غير تسميتها (ثالثا … قصيرة جداً) لتركيزها والغور الى قعرها مباشرة وكما في (إغواء ، إدمان ، ذئب وفراشة ، في الرابع من حزيران ، أبلغتني عزة ، غرور  )

   تحاول القاصة في مجموعتها هذه التعبير بأقل ما يمكن من معادل سردي، كي تُسقط عليهم المفاصل الرئيسة للقصة، لتستفز أفق المتلقي، وهو يغوص في كينونة الأنوات المتحركة تحت الفضاء القصصي وهو يلامس الوتر المشترك بين القاصة وشخوصها من جهة، والمتلقي من جهة أخرى.

لذا فالتكثيف هو من العناصر المهمة في القصة القصيرة والقصيرة جداً كونه هو الذي يحدد بنية القصة من خلال فاعليته المؤثرة في اختزال الموضوع وطريقة تناوله، واِيجاز الحدث والقبض على وحدته، وهذا يعتمد على قدرة القاص على انتقاء عناصر الصورة وموضوعها إنتقاءً موفقاً وتشكيلها تشكيلاً موحياً.

    وفي الختام أقول :

لقد كانت القاصة نجمة خليل حبيب في قصصها هذه  مرتبطة بمجتمعها ارتباطا عضويا لا يمكن بأي شكل من الأشكال نفيه أو تجاهله، فقد حملت لنا قصصها واقع وأحلام وتصورات الفلسطيني وهو يعيش قضيته في صراعه مع الآخر ومع الحياة والواقع الصعب، فقد كان شخوصها وتوظيفاتها صورة معبرة عن القيم الاجتماعية والسياسية ومن خلالها دعت قرائها إلى التغيير الجذري في نمط حياتهم وتفكيرهم من أجل التطور والرقي الفكري والحضاري.

ولعل هذا ما دفع بها إلى الانكباب على موروثها الشعبي والذي لا يزال يعيش معها والنهل من نبعه الغزير والغني بشتى صور الإبداع والأحلام التي تحاول في أحيانا كثيرة تجاوزها إلى حدود بعيدة بدلا من توظيفها للخطابات الرنانة لسياسيين فارغين .

الموروث المادي في المجموعة ( جدتي تفقد الحلم ) يتمثل في الصورة الفكرية التي ترتسمها القاصة وهي تواجه لغز صراع الوجود ، في الظاهر منه والمخفي في أمانيه وخيبته… وكان تجليات توظيفها لموروثها المادي هو الذي منح قصصها قيمة جديدة يتماشى مع أفكارها وأحلامها . القاصة د. نجمة خليل اثرت المكتبة العربية بجمال عطاءها..

أديب، ناقد و مترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى