في مديح الخلود.
إلى روح فقيد الساحة الثقافيّة التونسبّة. الجامعي والإعلاميّ: محمد البدوي
في مديح الخلود.
إلى روح فقيد الساحة الثقافيّة التونسبّة. الجامعي والإعلاميّ: محمد البدوي
عندما فقدت والدتي أخبرتني نفسي أنّه الوجع الذي سيجعل كلّ الأوجاع عرضيّة وتافهة…لكن هيهات
وقلت لجسدي “لن تصاب أكثر ممّا أصبت” وأخبرت قلبي أنّ تلك الهشاشة الّتي استبدّت بك، لن تصيبك مطلقا…ومضيت مبتورة الخاطر والوجدان حتّى اشتعل القلم مراثي وامتدّ الكلم غابات لبيوت السلوى.
والطريق آه من الطريق يهب العدوّ والصديق، يجمّع ويفرّق، يعلّم ويدرّب. والطريق وحده عدا بي نحو مرتع النسيان. وجدتني مع مئات الشبان والشابات أراسل “واحة المبدعين” استئناسا بصوت “محمد البدوي” وتوجيهاته. وكانت الرحلة.
رحلة لم تكن مشدودة للكلمات. فسرعان ما يدرك مراودها أنّها صنو وجود تتغذّى بالقدرة والصبوة والصمود. رحلة انتماء لنمط وجود مداره الكلمات… لم أكن غير قشّة من كومة فساد للعلاقات والأبدان.هذه القشّة استطاعت أن تتقاوى وتكبر بالصدق والعرفان. وتحوّل معالجة الكلمات إلى مساعدة الكائنات على الاطمئنان.. فغادر اسمي أثير إذاعة المنستير لينادى به على أفواه عائلة “البدوي” الكريمة؛ الزوجة ناصريّة – رحمة الله عليها رحمة واسعة- والأبناء؛ أميرة وآمال وصلاح الدين وأسماء. جاورتهم المنزل. وأقمت بينهم. وأكلت أكلهم.. وكذلك كان وجودهم ببيت عائلتنا وبحرنا.. ولم تباعد بيننا غير المشاغل والأيّام.. ولئن باعدت فقد حفظت الروح والواجبات كلّ مقامات الاحترام والعرفان ومشاركة الأفراح والأحزان…
كبرت كما كبرت الكلمات.. كان يخاصم صمتي وابتعادي عن اسمي والكلمات. وكنت اقول له “الكلمات دون أحزاني وهمومي!” فيغضب من غفوتي وصمتي. وكنت اقول له صادقة”اراك أشدّ حرصا من” الكتّاب” على وجودهم مع الكلمات”! فيجيب “لا خلاص إلاّ بالكلمات” وعبارته الشهيرة “أمّا الزبد فذهب………. وأمّا ما ينفع الناس……….”
والناس بالناس على هذا النفع قيام وقعود. والناس بالناس في حرب وجود.
انصرفت مع تصريف أيّامي بعيدة عن ناس الكلمات. صدمت بوفاة زوجته الكريمة. صدمت بنوائب الدهر تغرس جرحا في قلوب إخوتي أبناءه… تألّمت لصحته التي اخذت من بدنه.. ولكنّ ذات النوائب صنعت مجدا به يسير العيش والكلمات مكتوبة ومسموعة ومطبوعة.. زادت مشاغله وكبرت أحلامه وتحقّقت.. كان يجمع بيننا هاجس الإيمان بالذات وهي تنحت ما تكتب…..
كان يذكّرني بمجموعتي الشعريّة التي جمعها والمرحوم منجي الشملي إيمانا بالأدباء الناشئين. نُشرت وأنا طالبة.
يهبك ما تحتاج قبل أن تسأله.. كان لقاؤنا يمرّ عبر العائلة وأحلامها.. حتّى آلتقيه والعزيزة فقيدة الكلمات “نجاة المازني”.. كان لقاء بالحمامات. وكأنّه في كلّ مكان! به حمد ونجاة ونور…
وكان لقاء مع رفيق درب وموطن أسرار توفيق الببة.. حضر معي في أجمل اللقاءات “توقيع نوبات والمرايا”.. كنت معه تلك الّتي تعاند الكلمات بكلّ هجرة المعنى المبتور.
دخلت بالأمس 2022/09/12 منزله الذي غبت عنه سنين.. فكأنّي لم أغب. احتضنت أبناءه. وسلّمت على سيّدة البيت “المرحومة ناصريّة” صورتها وهي ضاحكة في ركن تقابلها صورته وهو مبتسم…
أعجب به من لقاء.. كأنّه لم يغب. كأنّه لم يوار. بل إنّه كذلك زرع روحه في الكتاب والكلمات.. وروت لي آمال قصّة تدوينته الأخيرة. اختار أن يودّع أصدقاءه وأحبابه ومتابعي صفحته في هودج الوداع الذي نهل من فساد بدنه… رسالته الكون والفساد.. فساد الزائل الجسد وعمار الكائن الروح!
كتابه الأخير “أحفاد الشاعر”. فهل للشاعر أحفاد برره؟
للراحل أبناء بررة وتلاميذ وأصدقاء…
أخبرتني ابنته عن اللائمين الذين استاؤوا من صورته الأخيرة… وجدوا فيها ألما وتصاديا بين فناء جسد الرّاحل وضحكة ابنه البارّ!
العزيز فقيد الساحة الثقافيّة مولود دائما في حضرة أبنائه! الصورة؛ صورة الوداع بعيدة مستقرّ المعنى وانكشافه. إنّ الرّجل غنيّ عن الموت لأنّه حصل بالقوّة. وبينه وبين النومة الكبرى أنفاس! الخلاص في متنها بالكلمات!
في بيته واجهتني صورة من صور كثير.. احتفال وهبتها كعنوان… قلم رصاص يكشف أكثر ممّا يحجب من معالم البنيان.
سي محمد البدوي رحلت وأنت مؤمن بأنّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
أنتم السابقون ونحن اللاحقون. رحمة الله عليك رحمة واسعة.