خواطر في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر
خواطر في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر
د. حسن محمود قبيسي
انقسم الناس حول جمال عبد الناصر إلى فرق أربع ، واحدة رأت فيه المثل و المثال الأعلى ، وثانية حاولت التماثل معه ، لكن لا أسلوب قمع مراكز القوى في عصر عبد الناصر ، ولا شراء الذمم ، ولا الخطابات ولا الأعلام ، مجتمعة أو متنافسة ، قادرة على أن تخلق من أي كان جمال عبد الناصر .
ولا كل الانتكاسات ، و القيادات الناصرية بمعظمها من الآثمين فيها ، ارتكابات أو سكوت ، قادرة على أن تغيير في التاريخ ، فوقائعه قد تًقدم على غير ما هي عليه ، لكنها عاصية على الإلغاء و النسيان والتجاهل .
وثالثة «تُبّت يدها وتًبًت» .
ورابعة منافقة انتهازية .
ولم يتبق اليوم من حطام تلك الفرق ، إلا ثلة من القابضين على جمر قضايانا ، وقليل من الساعين لوارثة ليسوا على مقاسها .
***
عبد الناصر صاحب مشروع تحرري- نهضوي ، فلا نهضة بلا تحرر اقتصادي و سياسي . والهدف المركزي للنهضة هو صون التحرر .
الناصرية فكر و انجازات و ممارسة ونهج ثوروي وأخلاق . والأخلاق ركيزة المشروع الناصري ومن معاييره . ومن أنصع تجلياتها الأخلاقية والإنسانية في مسيرة عبد الناصر و مسلكه : « إنما الأهداف العظيمة للأمم العظيمة ، يجب أن تتكافأ أساليبها شرفًا مع غاياتها » .
وديعته فكر مستنير فيه حلول لمشاكل الوطن العربي التي عاصرها ، وعلى الناصرين تطوير تلك الحلول لتتلائم مع المستجدات و تواكب تطورات العصر، والعمل ب«القياس »لإيجاد حلول للمشاكل التي استجدت بعد رحيله ، على قاعدة التكامل الاقتصادي لبناء مجتمع الكفاية في الانتاج و العدالة في التوزيع ، ووحدة الأمن القومي العربي، وتعزيزه لصون الحقوق العربية ، وفق رؤيته : « الحق بغير القوة حق ضائع ».
مسيرة عبد الناصر، وإن كره الكارهون أو حاول المغرضون الانتقاص منها، إنجازات تحررية ما زالت بشقها العسكري مبعث عزة مصر و كرامتها . ولم تحافظ جماهيره في مصر ، ولا أناقش هنا في الظروف و الأسباب،على ملكية الإنجازات العمرانية منها في مجالها الحياتي ، ولم أعرف ما سلم منها حتى اليوم سوى قناة السويس والسد العالي وبحيرة ناصر. ولا تمسكت بمكتسباتها ولا دافعت عنها بوجه «الانفتاحيين » والساداتيين و مخلفاتهم بأسمائهم و أوصافهم المتعددة .
***
وفي جردة حساب سريعة نلحظ أن كل من القيادات الناصرية التاريخية – ولا تسألني عن مقياس التوصيف – فهمت الحرية على أنها التزام عناصرها بقرارتها و تنفيذ تعليماتها والتعاطي مع الآخرين من خلال تقييم « القائد» . والاشتراكية أن يشارك الأخرين ب« غنائهم والجزية التي يستوفونها من الأنظمة وأجهزة المخابرات » لا الاحساس بأوجاع الناس واحتياجاتهم، والمضحك المبكي أنهم فهموا الوحدة هي في اختلافهم على ما ليس لهم : لا يرضى واحدهم بأن يُعامل على أنه الأول ، كل متمسك بأنه الأوحد، وكلما عضهم الجوع إلى السلطة والنفوذ والمكاسبتنادوا لوحدة الناصريين ، ولكنهم بأكثريتهم متفقين على أن من ليس مسلمًا سنيًا لا تستقيم ناصريته ، لكن قد يُنظر بأمره … لاسيما في لبنان .
القيادات الناصرية الناشطة – بمعظمها- كانت « على الموضة » ، فما أن صارت الناصرية من الماضي كما حسبوا ؛حتى تقمصوا قمصانًا مزركشة متنافرة التلاوين وصاروا شيعًا : فناصري مع السادات ، وثانً مع النظام السوري وثالث مع النظام اللبيبي ، ورابع مع النظام العراقي ، وخامس مع المقاومة الفلسطينية ، وسادس مع التضامن يقيادة آل سعود ،وسابع حريري وثامن إسلامي … وآسف إن سهوت عن علم من أعلامهم ، والحبل على الجرار …
***
كان عبد الناصر أملًا فصارذكرى ، وصارت انجازاته بعد ضمور المشروع الناصري لأسباب موضوعية وذاتية، تقديمات اجتماعية وتسهيلات ظرفية .
كان عبد الناصر في حياته هو البوصلة بها يسترشدون ، وكان ولاء القيادات الناصرية له ، لشخصه ،لا لمشروعه ، -إلا قلة نذرت نفسها للأمة – ومثلها التحالفات مع الرؤوساء العرب ، فلما رحل كانت حسابات أخرى . حتى قبل رحيله، وبعد نكسة 1967 ،انقلب بعض عليه ، وبحثوا عن مظلة أخرى . وكان لظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة ، التي عاملها معاملة الأب المنشرح الصدر بأن اشتد عضد أولاده ، وإن كان بعضهم عقوقًا . حولوا تقديمها البديل عن زعامته و قيادته ، ولكن ليس للشوكة أن تكون العصى الغليظة .