أدب وفن

النص وصاحبـــه !!/ بقلم الشاعر مردوك الشامي

النص وصاحبـــه !!

لن أقول تحية حارة،.. فالحرارة التي تكتسح جوف الأرض وسطوحها في كثير من العواصم والبلدان خلال هذه الأيام تنعكس برودة بلا حدود في طقسنا وحياتنا ومواقفنا،.. تحية باردة إذاً، لكنها من قلب حار جداً يكاد يحوّل كل ما حوله إلى بخار أحاسيس.
تحاورتُ مع بعض الأصدقاء المصابين مثلي بلوثة الكتابة عن الصدق الأدبي،.. واختلفنا،.. وراحت آراؤنا تكسر بوصلة التفاهم على أن الشمال دائماً في الشمال،.. وأن الجنوب دائماً يشبه جذر الشجرة، لهذا يعمدون إلى قصفه دائماً لتحطّ شجرة الوطن في مواقد الغرباء!..
لا أدري لماذا نختلف في كل حوار،.. لماذا لا نعترف بأننا أحياناً نجانب الصواب،.. وأحياناً نكون معه..
الحديث قادنا إلى العلاقة بين النص وكاتب النص،.. وأن الكاتب الحقيقي من يتمثل نصّه أبلغ تمثيل،. وليس الذي يناقضه،.. اعترف أننا لم نتفقْ،.. لهذا سأهمس لكم برأيي في الصدق الأدبي،.. وكيف أميّز بين نص صادقٍ،.. وآخر يقف عند حدود الافتراء،.. ليس صحيحاً أولاً أن أعذب الشعر أكذبه،.. وليس صحيحاً أبداً أن البلاغة القصوى تكون في إقصاء المحسوس والملموس،.. ألا نكون بلغاء أكثر،.. حين نمد إصبعنا في الجرح ونكتب عنه بمداده الأحمر.
أنا لا أميز مطلقاً بين النص وكاتب النص،.. فلا أقبل شاعراً يتحفنا كل يوم بقصيدة عن الجياع والألم،.. والمعاناة،.. ويتناول عشاءه في افخم المطاعم!..
ولا يقنعني أديب يحمّل كتاباته لواء الحشمة مدافعاً عن الشرف والطهارة والنبل،.. ولا يغادر ليلةً علبَ الليل!..
ولا يجعلني أحترمه الشاعر الذي أقرأ في قصائده التمرّد والسخط على السلطة،.. واكتشف أن السلطة ذاتها تتفق على ملذاته ورحلاته الاصطيافية،.. ولا الشاعر الذي يذبح دواوينه في محبة الوطن والانتماء إلى الأرض،.. وفي السر يلتقي بأعداء بلاده!..
المتنبي قتله النص،.. كان يمكنه الفرار بحياته،.. لكن نصه أعاده إلى حتفه،.. وخليل حاوي كذلك حين وجد أن جمرة الوطن تخبو أمام الانكسار العام،.. وأنها كانت مشتعلة في شعره،. أطلق على نفسه النار،.. لينبعث في قيامة الموقف،.. ومثلهما شعراء كثيرون،.. زاوجوا بين نصوصهم وشخصياتهم،.. فكانوا صورة عنها،.. أولئك يفرضون احترامهم على أبجدية الضوء،.. لأنهم يكتبون نصوصهم البيضاء دون أن تلوّث أيديهم مستنقعات العتمة!..
حين أكتب عن الحب، أكون أحبّ حقاً،.. وإلاّ فالحروف التي أخطّها تكون جثثاً محنطةً في أحزمةِ الأوراق.
وحين أكتب عن الأرض التي أحبها،.. أكون لصيقا بهذه الأرض،.. كم يحيّرني أولئك الذين يكتبون عن عشق الوطن وهم يصطافون في المنافي ذات الخمسة نجوم!..
أليس الصدق الأدبي إذاً،.. أن نقول ما في داخلنا دون تزييف وبهرج،.. أن تكون نصوصنا نحن كما نحن،.. لا أن نجلس في أبراج عاليةٍ،.. ونصدّر للقارىء أحكاما لا نشبهها على الإطلاق!.. أعذب الشعر أصدقه،.. هكذا تستقيم الصورة!..


من خلال ما سبق، أعترف أنني أغش قرائي أحياناً،.. ولا يتطابق نصي مع الحالة التي أعيشها،.. فأنا كثيراً ما كتبت قصائد فيها فرح عارم،.. وأكون أثناء كتابتها يحرقني الحزن،.. هل أكون مخادعا بهذا الشأن،.. أنا أحاول نشر البهجة قدر استطاعتي،.. وكم أفتقد إليها،..
أيغفرُ لعثراتي أنني أصرّح بها هكذا دون قفازات؟!!
أيغفر لي قارئي حين أجعله يبتسم، وأكون في اللحظة ذاتها أخفي دمعتين كبيرتين بمساحة هذا الكوكب!..
أحياناً نجمّل الخراب قليلاً،.. فقط كي تنبت في يباس أعمارنا نبتة الأمل،.. هنا يكون النص مخالفاً صاحبه،.. لكنه لا يدخل في هوامش الافتراء،.. لأننا نكون آنذاك في صحراء الأبجدية ننقب من أجل القارىء عن ندرة اليقين!..

من كتاب يصدر قريبا بعنوان” حبر أبيض / نصوص في الشعر والثقافة والحياة”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى