أدب وفن

الحياة والمقهى /بقلم الأديب ناصر شرارة

الحياة والمقهى

تبلغ عادة ارتياد المقاهي عندي، حد الادمان . واغلب ظني أن سبب ذلك هو نقطة ضعفي المفرطة تجاه الإحساس بالإمكنة وبناسها.
.. وأسارع هنا للقول، إن المقهى هو ثقافة مكتوبة على سطور ملامح وجوه روادها. وفي كل مرة تهت مستغرقا في قراءة وجوه الجالسين حول طاولات المقهى، كنت ازداد قناعة بأن الناس تكتب بقلم ابتساماتها، وبدموع الحبر السري، قصة حياتها على سطور تجاعيد ملامح وجهها.

طالما حدث معي انني كنت اقصد وجهة معينة، ثم قطعت رحلتي عند مقهى يستوقفني وكأنه حاجز من الاغراء، ويشد قميصي من دبر، كما فعلت نسوة مصر مع يوسف الذي اغراهن جماله.

.. واذا كان الله خلق الناس درجات وطبقات، فإن المقاهي هي ” برزخ ” لا وجود للفوارق الطبقية فيها؛ فروادها هم سواسية كأسنان المشط وقبائل وجماعات خلقها الله لتعافروا..

ان ثروة فقراء رواد المقاهي هي ذات ثروة اغنيائها، فجميعهم يحتسب ثروته بكمية هذا الوقت المستقطع من نهارهم حول طاولة المقهى، حيث أن مذاق وقت ارتشاف فنجان قهوتهم يصير اغلى من ثمن نوعية البن المسكوب فيه. وذات مرة سمعت منح الصلح يقول ان قهوة المنزل تطير النوم من العينين، ام قهوة المقهى فهي تطير ثقل الوقت من الجهاز العصبي.

وعلمتني خبرتي في دنيا المقاهي، ان اجملها هي المقاهي الشعبية التي يحج اليها المفكرون واثرياء العقل والمال، وذلك جنبا إلى جنب مع فقراء يرتادون المقاهي بنفس الاريحية التي يدخلون فيها منازلهم ومخادع زوجاتهم.

لقد غيرت المقاهي نظرتي إلى الوقت ، فما عاد هو ذاك الزمن الذي تبدع الساعات السويسرية في دقة احتسابه، ولا تلك الدقائق التي تقيسها حبيات الرمل، بأسلوب محقق يمتهن لعبة اخذ المتهم إلى حالة الانهيار العصبي؛ إن وقت المقاهي هو زمن يلبس الثياب الفضفاضة، ويتناول الوجبات السريعة في الحدائق العامة ، ويعدو حافي القدمين على شاطئ البحر، كبنات مدارس خرجن في نزهة مدرسية .

واذا كانت القصور هي قصة العراقة والابهة والعظمة، فان مجد عراقة المقاهي وارستقراطيتها بنيت في المقاهي الشعبية التي رفعت على جدرانها صورة لرجل تركها إرثا لاحفاده.

ان عظمة مقاهي خان الخليلي في القاهرة، هي انها قصة الشعب المصري بكل فئاته،
ففوق طاولاتها الخشبية الخشنة، كتبت القاهرة اجمل ادبها، ولحنت اجمل موسيقاها لمصر ولكل العرب .
وحول أفقر طاولة داخل مقاهيها، حبر العقاد رواياته، وتلمس طه حسين الضرير اول أشكال تكور جنين الحرف في رحم نقد الموروث الأدبي العربي والاسلامي، وعلى ذات هذه الطاولات الخشبية الخشنة، احتسى فقراء القاهرة الاتون إلى عاصمة ام الدنيا من ضفاف ترع الصعيد، الشاي المخدر بروح الدعابة، ونفثوا من افئدتهم المتعبة سحب لفافات تبغهم التي تعجز حتى مياه النيل عن اطفاء سعير احتراق رمادها.

ان مثقفي مقاهي الشانزليزيه في باريس ، اليساريين او الليبراليين أو التجديديين، صاروا مع الوقت بمثابة أكبر حزب نخبوي في أوروبا.. وهؤلاء لا يحملون في جيوبهم بطاقات انتساب حزبية، ولكنهم يحجزون ليومهم أريكة حول طاولات مقاهي هذا الشارع الذي يسير فيه التاريخ ذهابا وإيابا، والى جانبه تسير أفكار الثورة الفرنسية وكأنها ولدت للتو.

وكانت مقاهي بيروت لفترة غير قصيرة، اشبه باميرة تحمل عرشها امواج شاطئ البحر المتوسط.. وحول طاولاتها طافت ملائكة تتنزل من سماء طموحات المواطن العربي بالحرية والتقدم والتغيير ..

واكاد اقول ان نصف البيانات التأسيسية للاحزاب العربية، أخذ قادتها مبادئها من استراق السمع لحوارات مثقفي رواد مقاهي بيروت .. وفيما كانت الجامعة الأميركية تؤدي دور أسطول أكاديمي أكثر قوة من مدمرة روزفلت، كانت المقاهي القريبة من الجامعة الأميركية هي الصف الأكثر انتاجا في دنيا العرب، بالتحريض على مقارعة اميركا كاستعمار..

أن المقاهي هي تاريخ أزمنة الناس حينما يستوون كملوك وقياصرة فوق عروش لحظاتهم الحرة الهاربة من مؤشر الساعة الذي يضرب جسد سني اعمارنا بسوط الثواني الموجع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى