أدب وفن

قراءة د. ميشال سعادة في قصيدة الشاعرة ندى الحاج

قصيدة الشاعرة ندى الحاج

حاولتُ أن أقولَ الأشياء
وأن أصمتَ عند الكلام
وأمسحَ الدمعةَ عن الليل
حاولتُ أن أفهمَ المعنى
وأن أغمضَ جفنَ الغموض
أن أطلقَ سراحَ الأيام
وألوِّنَ الحبرَ بالموج
والزبدَ حبراً
أن أستنجدَ بالرأفة
وأكلِّمَ الأرواحَ في وحدتها
أن أستقبلَ الصدْفةَ وأرحِّبَ بالطير
حاولتُ أن أتركَ ما ليس لي
وليس لديَّ الكثير
حاولتُ سرقةَ الوقتِ من اللاوقت
والزمنَ اليسير
من وشوشة الينابيع
أن أفهمَ ما لا يُفهم
وأن لا أفهمَ ما هو جليّ
حاولتُ الرقصَ على حوافي الأغصان
وعصرتْني الرياح
لم أسترق البصر
بل توغلتُ في اللب
حتى زهدتُ
حينها جاءني الحبُ كالخَضِر
قائلاً اتبعيني!
ومُذّاك أقفزُ فوق المسافات
أحاولُ اللحاقَ بالخطوات
وفكَّ الرموزِ بالإشارات
مُذّاك فهمتُ الحياةَ لغزاً
وحلماً يفوقُ الإدراك
والحبَ عطراً سابحاً في الأزمان

مقاربة أدبية للشاعر ميشال سعادة

مُحَاولَة مِنِّي في مقاربة هذا النصِّ .. مِفتاحُ هذا النصِّ الشِّعرِي فِعلُ “حاول” ، بناءً لتَكرَاره أكثرَ من مَرَّةٍ .

وَ”حاول ” من فعل ” حَوِلَ يَحْوِلُ “.
وَ”الحَوِلُ” عَنَينِا بهِ ( عدا ” الحَوِلُ “
في العين ) القوةَ والقدرةَ ، كما يعني الحذق والمهارة وجودة النظر ، اي كل مُتَحوِّلٍ عن حاله . ومن ” حَولَ ” فعل ” حاول ” محاولةً وَحوِالًا ، يفيد إرادة بلوغ الأمر وتحقيقه ، أو حتَّى طلبه بالحِيَلِ ..

وعليه ، أرى إلى الشاعرة ندى الحاج مأخوذةً بالجِدِّية ، على قاعدة الممارسة والتَّمَرُّسِ . لذا كل لا بُدَّ من أن تتكلَّمَ . فِعلُ التَّكلُّمِ هذا يقتضي حالًا من الصَّمتِ قبلَ الكلام وبعدَهُ . ولا يخفى أيضًا أنَّ الصَّمتَ يتطلَّبُ “المحاولة” التي كثيرًا ما تلجأُ إليها الكاتبة الشاعرة زَمنَ اللَّيل . اذا كان النهارُ يُبعثرُ ويُشتِّتُ جليسَهُ وأنيسَهُ ، فإنَّ اللَّيلَ يجمعُ ، فيستجمعُ الشاعرُ جميعَ قواهُ وطاقاتِهِ العقليةَ والشُعوريَّةَ . واللافتُ الجميلُ في بدايةِ النصِّ أنَّ الشاعرة ندى جاءت ” تمسحُ الدمعةَ عن الليل ” ، طَردًا لحُزنٍ أو كآبةٍ ، محاولةً منها الى “فهم المعنى”الذي ، ربَّما حِجابُهُ العتمة . وهي دائِمًا تعيشُ المحاولةَ . لذا ، راحَت ” تُغمضُ جفنَ الغموض ” ، في محاولةٍ منها هي الإستبطانُ كي يتسنَّى لها كَشفُ حجاب المعنى الذي شاءت بلوغَهُ وتقصِّيهِ ،

فكان لها أن تطلقَ سَراحَ الأيام ، وتحرِّرَها من قيودٍ كانت قد تحكَّمت بفعلِ مرور الزَّمنِ .

الشاعرة ندى عَميقةٌ عُمقَ البحارِ ، تتقصَّى الأمور بدقةٍ لامتناهية ، ورهافةِ إحساسٍ ، فكان عليها أن تدخلَ هيكلَ الشِّعريَّةِ ، بقدرةِ شاعرةٍ رسَّامةٍ ، تُلوِّنُ الحِبرَ بالموجِ / مَوجِ ما يتماوجُ في ذاتها ذاكَ الليلَ / عشيقَها وَمعشُوقَها ، وتلوِّنُ الزّبدَ الأبيضَ بالحِبرِ . إنها هذي الشاعرةُ التي ، في بحرِ التناقضاتِ ، تصطادُ اللَّحظَةَ الشِّعريَّةَ بمهارة صيَّادٍ حاذِقٍ . ولا يخفى ، بما هي عليه من حال

شفافية قُصوى ، أن تستنجدَ بالرَّأفةِ
من فيضِ حنانها ، مُتجاوزةَ الواقعَ الى حالٍ هي فيهِ كليمُ الأرواحِ في وحدتها . لا تدعُ أيَّ صدفةٍ تفوتُها ، تُرحِّبُ بالطيرِ تاركةً ما ليس لها ، مُعترِفةً أَنْ ليس لها الكثير ، إنطلاقًا من تواضعِها وقناعتِها .

ها هي تسرقُ الوقتَ الذي بمفهومها ، مفهوم ديموقريطس ” لا يمكن أن نغتسلُ بالنهر مرَّتين ” . تسرقُ الوقت من اللاوقتِ ، من الزمنِ اليسير ، ومن وشوشة الينابيع محاولةً منها فهم ما لا يُفهَم ، بعيدا من فهم ما هو جليٌّ . ندى التي ، تهوى الطبيعة وفصولها

والشَّجر والماء ، راحت ترقصُ على حوافي الأغصان . هي ترقصُ رقصَ صوفِيٍّ ، في طوافِ العاشقِالذي انعتق
من المادوية ، وراح يسبحُ في فضائهِ الخاص والمميز . كان لها في طوافها
أن عصرتها الرياحُ ، فدَخلت في اللُبِّ متوغِّلةً حتى الزُّهدَ . هي التي حبُّها
خطر لها بعيدًا من حبِّ البشرِ العاديين ، قائلًا _
” إتبعِينِي .. “

تَبِعَتهَ قفزًا فوقَ المسافاتِ . تُجيد اللحاق بخطواتها التي سبقتها ، محاوِلةً فكَّ الرموزِ والإشارات في عالمٍ غيرِ عالمِنا ، فكان لها ان تعترفَ ، بعدَ الذي كان _ ” مُذَّاك فهِمتُ الحياةَ لغزًا وَحُلمًا يفوق الإدراك والحُبَّ عِطرًا سابحًا في الأزمان ” صَدِيقِي القَارِئ لا تقرأْ الشاعرة ندى الحاج بعين البَصَرِ ، بل بِعَينِ البَصيرَة وإن لم يَكُنْ بوسعكَ أن تَدخلَ فضَاءَها الطَّوَافِيَّ المُرَمَّزَ فَدَعْهَا تعيشُ على هَوَاهَا ولا تَقرُبْ شِعرَها إن لم تكن لكَ عافيةُ أن تفهَمَ ما تَقُول …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى