إبحار الروائي مصطفى ولد يوسف على متن قصيدة الشاعر خضر حيدر
قراءة في قصيدة “حدثتني المدينة “
عندما قرأنا قصيدة “حدثنتي المدينة”للشاعر اللبناني “خضر حيدر” لمسنا حالة التشظي في الذات الساردة؛ حيث ملفوظ المدينة ككون مشخص يسائل عن خطيئة الانتماء الحتمي والجديد،ففضاء المدينة احتوى الكائن القروي بحمولاته، وهي الإرث الطفولي، وسمو النفس النقية والمتزنة :
كما تجري السواقي في شرايين القرى
ذنبي أني حامل إثم الهوى
للأرض، للأشجار،للأنهار…
بين المدينة والقرية مسافة الوجع والإرباك،فالذات الساردة تعيش غربة المكان واغتراب زمني قاهر، متجليا في عدم الاستقرار على القرار النهائي، حيث تأبى القطيعة مع مصادر إلهامها :
ذنبي أن بي فتى جبز الحقول
وجاء الآن يطلب بعض ملحك
لكن لم ير من قبل بحرا…
تستمر ثنائية الانفصام والالتحام بين فضاء الأصول الوجداني والانتماء المباشر للأرض، وفضاء المدينة المغري والمبهر؛لينتهي الجدل الفلسفي إلى تبني الفضاء الجديد (المدينة) كضرورة حضارية، بل ينوب عن فضاء الولادة والأصول في بناء الأفق؛ ولكن يبقى الانتماء الأول موردا حيويا، تتغذى منه الذات الساردة،لأنه يحمل هويته الرومانسية وأسباب وجوده :
يا ابن القرى لك الأبواب
فادخل حاملا صك البراءة
أنا المدينة
ثم يضيف قائلا:
كن مذنبا بالملح
واخبز حقول ما تشاء
كن مذنبا بالأرض والأشجار والأزهار…
وأحلف بأنك لن تتوب!
في النص يتفرع المكون المجازي إلى تشكيلات بيانية ذات طبيعة انزياحية منسجمة، وهي زبدة مردود خيالي غاص في الانتماء الرومانسي للشاعر، حيث رسم صورة الكائن السائل والمتناقض و المتشظي والملتحم مع الموضوع في آن واحد في رقعة ملفوظاتية تجنح للخيال المعتدل والهادئ ،فعندما يقول”اخبز من حقولك ما تشاء” فالطبيعة الاستعارية في هذا الملفوظ صريحة، ولكن في تناولنا للطبيعة التداولية لها فإنها تفضي بنا إلى تأكيد التزام الذات الساردة بأنه مسكون بإرثها الطفولي إلى الأبد، على الرغم من أنها أصبحت جزئية من المحفل المديني.
على الرغم من حالة الوجع والمعاناة التي مرت بها الذات الساردة عندما يطلق ملفوظ الحسرة “رماني البحر في قاع الرماد…”،فإنها اكتسبت المناعة الضرورية في مدينة السحر والجمال…بيروت الحضارة والاشتياق في مقابل قرية الطفولة والحنين.
الروائي مصطفى ولديوسف
حدَّثتني المدينة
كما تجري السواقي في شرايين القرى
آتٍ إليكِ فامسحي عن وجنتِي
ما فاض من سيل الذنوب…
ذنبيَ أنّيَ حاملٌ إثمَ الهوى
للأرضِ، للأشجارِ، للأنهارِ
من جهةٍ تخلَّت عن أمومتها الجهاتُ
فلاذت بالجنوب…
ذنبيَ أنَّ بي فتىً خبز الحقول
وجاء الآن يطلب بعض ملحكِ
لكن لم يرَ من قبلُ بحرًا
أقربَ من شمسٍ متى حلَّ المساءُ
فرَّت من متاهات الغروب…
يا ابن القرى لك الأبواب
فادخل حاملًا صكَّ البراءة
من وجهِ الغريب والاسم الغريب
أنا المدينةُ…
كم أذنبتُ حين واجهتُ الجهالةَ بالحضارةِ
حتى صار جذعُ الأرز أوراقَ الكتُبْ
وكم أذنبتُ إذ رماني البحر في قاع الرمادِ
سبعَ مرَّاتٍ وعُدتُ جمرًا للحياةِ
مرسىً للمدائنِ
أمًّا للبعيد والقريب، ولم أتُبْ
وكم حلفتُ بأن أبقى مدى الآجالِ مذنبةً
عنّي تتوبُ النائباتُ، ولا أتوبْ…
كن مذنبًا بالملح
واخبز من حقولك ما تشاء
كن مذنبًا بالأرضِ، والأشجارِ، والأنهارِ
بسحنةِ الوجوهِ ونغمةِ الأسماء
بلكنةٍ حفِظتَها طفلًا على شفَةِ الحبيبةِ والحبيبْ
كن مذنبًا بالسير فيَّ مُسرِّحًا شَعر الهواء
مُرنمًّا: تحيا الذنوبْ
…واحلف بأنك لن تتوبْ !
الشاعر خضر حيدر