أدب وفن

مارون الماحولي الشعر المخضّب باللحظات الأولى للخلق .

الأديب أنطوان يزبك

يقول شاعر الهند الكبير طاغور:
إذا شاء الرجل أن يسكر فويل له إذا سكر من قلب المرأة.

في شعر مارون الماحولي حمولات وشحنات ضخمة من الحب والعاطفة تجاه الأنثى وعلى ما يبدو أن الشاعر هو الذي سكر بخمرة المرأة ، خارقا وصية طاغور على سعة واقتناع، كما لو أن خمرة المرأة ما هي سوى خمرة ذبيحة إلهية في قدّاس يحتفل بألوهيّة الأنثى منذ بداية التكوين .

التكوين في بداية الخلق وظهور الإنسان وأعني به أكثر ، تكوين معرفة الإنسان بالخالق حين كان “هي” وليس “هو”، في عبادة الالاهة ” أنانا” وذلك في ذروة انوثة الجندر السماوي و “جيا” في معين خصوبة الأرض وينبوع التجدد المتفجّر .
يبدا المشهد الشعري إذن مع الشاعر أكثر من طقوسي، يستمدّ من الماورائيات واللاهوت آليات التكوين وعصارة التشكيل اللغوي والرمزي.
في قصيدة المرأة ال ” لا ” صارت المرأة – الأنثى ، عروسة التكوين وضابطة إيقاع الزمن حين يقول الشاعر :
كانت غدا وتكوّنت في الآتي
كالصوت فاحت من عرى النايات
وكأن المشهد هنا يذكر بمحتوى الأناجيل : في البدء كان الكلمة…واللعب على القبل والبعد لأن الزمن يغلبنا بالفعل فكيف إذا كان توقيته هو توقيت المرأة .
أما الصوت فهو بتكوينه صوت الكلمة ! والناي يذكّر بنايات الرعيان الذين كانوا أسياد الخلق الأول حيث الرعاة سادوا الأرض ينفخون في ناياتهم يسبّحون حواء الأم الأولى في عز تفجر عناصر الطبيعة كما الولادة ساعة يخرج الجنين من رحم الأم.
وفي زخم المقدس و أجواء ربوبية إيمانية لاهوتية ،لا ننسى يوم ولادة المسيح وكان الرعيان أول من احتفى بقدومه ومن ثم قدم المجوس محملين هدايا واعتراف ، وقد ذكر الشاعر في البيت السادس :
ومجوس عيني ابصروا الشامات …
والشامة هي أكثر من علامة ولادة ، هي دمغة من قبل التكوين وعلامة تخص المخلوق وفيها خارطة طريق لكل مراحل عمره…

الشاعر مارون الماحولي

في كل تضاعيف القصيدة نقع على علامات دامغة أصداء صاخبة من الكتاب المقدس :خلقت ، الآيات، ماتت ثم قامت، استوت في عرشها، مجوس….
ويستبقي الشاعر لذاته في الفانتازيا الداخلية المتنامية ، دور الفنان النحّات مثل ميكل انجلو والتمثال الذي يكاد ينطق أو نرسيس في عشقه لصورة الذات. وفي هذه القصيدة ليست النرجسية هي الغالبة بل لعبة التفاضل بين الوعي واللاوعي بعد طول انتظار وأرق ليال طويلة كما يقول إميل سيوران : ليست ساعات السهر في آخر الأمر سوى حيّز لا ينتهي من رفض الفكر للفكر . إنها الوعي وقد ضاق بالوعي.

هل كان مارون الماحولي عائدا من الحب الأول بخيبة لا تزال تسكنه ، ولم ينس قط حلاوتها، هل لا يزال يلوم نفسه لأنه لا يني يستعيد صورتها حتى لا تخبو مع الزمن ؟ أم أنه نحّات كلمات وفنان قصيد يريد نحت امرأة من بنات أفكاره الّتي تتناسخ من دون توقف في احتفالية الوجود وسيمفونية الفرح التي تعزفها ربّات الشعر في جنّات الخلود؟

أسئلة كثيرة تتوافد و تفرض ذاتها، بيد أن الشاعر يتّقن المتوائمات في شعره الحيّ وفكره المتوثب ، فهو إلى جانب فنّ المقدّس يتّقن أصول وشروط الفنّ المدنّس كما في قصيدته الجريئة : زنى …حلال

حيث المقاربة الشعرية تعبر إلى مقاربة أخرى أقرب إلى “التابو” يصل فيه الشاعر إلى مدينة المحرم ؛ الذي يدفع بالحبيب إلى تخيّل الحبيبة مع الرجل الآخر أكان هذا الرجل ، زوجا أو عشيقا، في مخدع اللذائذ واضطراب الحواس على طريقة أحلام مستغانمي فلا نتبين من العاشق الشرعي الأصيل أم المزيّف، ولا نعود ندرك مدى فداحة هذا العمل ولا حتى إطاره الذي منه انطلق ، أكان فكريا أو جسديا حسيا من خلال اللقاء الجنسي.

والجدير ذكره أن انسي الحاج تطرّق إلى هذه المشاعر بحدّة و وضوح من خلال قصيدة : لندع تلاقينا التي غنتها جاهدة وهبة ، وشعراء كثر حذوا حذوه…

بلغت هذه التيمة ذروتها ادبيا واجتماعيا مع ما صادفه جبران خليل جبران في أميركا حيث العلاقات الملتبسة مستوطنة دوما بين النساء والرجال والخيانات الزوجية ضاربة اطنابها منذ قرون.
بيد أن مع مارون الماحولي تتبع المعشوقة طقوسا أخرى محرّمة في المخدع الزوجي المسوّر باسلاك شائكة وأحاج عصيّة ، حيث التهويمات تذكّر بما جادت به قريحة أرباب التحليل النفسي الفرويدي ، حين تمارس المرأة علاقتها الزوجيّة وفي فانتزماتها يظهر الشاب الفتي، الذي يعمل في بقالة الشارع حيث تسكن ؛ فتعمد إلى استبدال صورته وقميصه المشقوق على صدر وعضلات مفتولة ،بدل حضور صورة الزوج المتهالك الرخو في السرير، من أجل حصاد متعة غير موصوفة والوصول إلى نشوة حدودها السماء السابعة ؛يقول مارون الماحولي في وصف نادر :

هيكي المرا ….لما لوحدا تفوع
بتاكل حلاها والشبع تقطير
مثل العتم لما بليلو يجوع
بياكل ع قهرو صوت العصافير…

هكذا أبيات قد ينظر إليها أنها شبقية ومغرقة في لعبة الجنس والاشباع الجنسي الجسدي المادي في مطاوي الملذات ، وقد يقال أيضا أن الشاعر يبخس المرأة حقها إلى درجة النظر إليها كشيء ، أو حتى اعتبار مارون من الرجال الميزوجينيين المتعالين على النساء، كل الاحتمالات واردة ولكن في قلب الشاعر وسريرته تبقى المحرمات والدنس قرينة الموت ، خاصة في مخدع الملذات المحرمة ، اللذة الجنسية في كل أحوالها تبقى دنسة وقاتلة حين تكون زنى فهو في ذلك حين يقول :
في ناس تختا بيشبه التابوت
لما ع قلبو تفوت

يقدّس الشاعر المرأة في طهارتها حتى في صميم الخطيئة ، ولو أن في مساحات الشعر اللامحدودة بزمان أو مكان أو قيود وموانع تلتهب الأفكار ؛ لا بأس والحال كذلك ، لو ذهبنا في نزهة إلى مسارح اللهو ومطارح الفاحشة مع نساء من أشباه ؛ مسالين و غادة الكاميليا وتاييس ومدام بوفاري في التفلّت والانقياد وراء الشهوات ، فكل خطايا النساء لا تعادل نزوات الذكور التي هي في أساس ضياع المرأة ودفعها إلى ارتكاب المعاصي ! ..

يقول جبران خليل جبران :
حنان المرأة ، أقوى من قوّة الرجل !
ولكن الرجل حنون أيضا والمرأة في مناسبات ومواقف عديدة أقوى حتى من الرجل …هل سعى مارون الماحولي إلى تكريس هذه المعادلات أم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى