أدب وفن

حتى أبلغ القمر/قصة قصيرة بقلم الكاتب ابراهيم ياسين

حتى أبلغ القمر

-إنه البالون الرابع الذي تضيعه أيها الشقي!

قالها أبي بنبرةٍ حانقة قبل أن تهبط أصابعه الخمسة بعنفٍ مخلّفةً على خدي أثر صفعةٍ مؤلمة أسالت الكثير من العبرات فوق وجهي آنذاك.

من خلق شاشة الدمع، رُحت أتابع تحليق البالون إلى أعالي السماء وقد سلّم زمام القايدة للريح بعد أن حرّرته أصابعي الصغيرة من سلطة الجاذبية.

كنت مهووساً بذلك الاختراع الجميل المسمّى (بالون الهيليوم) الذي دخل حديثاً إلى قريتنا. كان شيئاً أقرب إلى السحر. كيف يرتفع البالون من تلقاء نفسه؟ لم تحدّثنا برامجنا التعليمية عن ذلك الأمر. أو ربما لم نبلغ هذا الدرس بعد في منهاج العلوم.

أذكر المرة الأولى التي رأيت فيها مجموعة من هذه البالونات وهي مقيّدة بخيوط حريرية رفيعة إلى واجهة متجر الألعاب الوحيد في ساحة القرية.

أذكر جيداً الدهشة التي اعْتلَت وجهي وأنا أشاهدها حيث اعتراني مزيج من أحاسيس الدهشة والإشفاق في آنٍ معاً، إذ خُيِّل لي لوهلةٍ أنني أمام مجموعةٍ من العصافير الملونة التي تحاول جاهدةً الانعتاق من أسرها.

ثم جاء ذلك اليوم الذي وافقَ فيه والدي أخيراً على شراء إحدى هذه البالونات. كان بالوناً أزرق اللون، وقد أغرتني زرقته السماوية بإطلاقه بحريّة نحو السماء. لكن والدي لم يحتمل رؤية ماله يطير في الهواء بغير رجعة. صفعني يومها مؤنباً وموبخاً بصوتٍ عال:

-طبيعي جداً، إن من لا يعرف قيمة القرش يطيّره في السماء.

بيد أنني لم أرتدع من الصفعة الأولى. كانت حجتي هذه المرة أنني أودّ إيصال بالوني إلى القمر. من أجل ذلك قمت بإطلاقه في الليل. لكن طموحي هذا لم يشفع لي عند والدي في تفادي صفعة أقوى من سابقتها.

توالت المحاولات والصفعات حتى بات الأمر مملاً بالنسبة لوالدي الذي أيقن بالنهاية بفشله الذريع في درعي عن محاولاتي اليائسة.

ربما كانت أحلامي وطموحاتي الشقية حينذاك تذكّر جدّي العجوز بما كان عليه في صغره. وذلك كان السبب المحتمل وراء كونه الداعم الوحيد لي بين أفراد الأسرة. ولكن على الرغم من ذلك الدعم المطلق، فقد آلمه فقدان ابنه لمدخراته مع كل بالونٍ أقوم بتسريحه.

سألني ذات مرة بعد أن فرغْت من حفلة تأنيبٍ أبوية:

-ألم تكتفي بعد؟ يؤلمني قلبي عليك بشدة.

-حتى أبلغ القمر.

-ألم تبلغه من البالون الأول؟

-لست متأكداً.


-وكم بالوناً تحتاج لكي تتأكد؟

-حتى تحتل بالوناتي كل سطح القمر.

صمتَ جدي لبرهةٍ قبل أن بعقد حاجبيه محملقاً نحوي بعمق، قبل أن يردف بصوتٍ أعمق:

-إسمع يا صغيري. القمر بعيدٌ جداً، وقد لا يتمكن بالونك الصغير من بلوغه. ولكن كن على ثقةٍ تماماً بأن كل بالونٍ أفلتْته بيديك إلى الأعلى قد صار قمراً جديداً معلقاً في السماء.

يوم توفّي جدّي، عرّجْت في طريق عودتي من المقبرة على ساحة القرية قاصداً متجر الألعاب إياه. ابْتَعت أكبر بالونٍ بين المجموعة وقد سدَّدْت ثمنه من مدخراتي الخاصة هذه المرة، ثم أطْلقته بحريّة تامة نحو السماء الواسعة. بقيت أراقبه وهو يصعد كالروح الصاعدة قبل أن يذوب نهائياً في قلب الصفحة الزرقاء.

في ذلك المساء، لفت القمر انتباهي. كان ناصعاً أكثر من العادة وقد ازداد سطوعاً عن باقي الليالي. لا أدري كيف خُيِّل لي لوهلةٍ أنني لمحت ابتسامةً مرسومةً على سطحه الأبيض.

ابتسامةُ مألوفةٌ لي…أعرفها وأحفظها جيداً.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى