نهاية/ بقلم القاصّة هند يوسف خضر- سوريا
نهاية
ألقى الليل بوشاحه الأسود فوق أكتاف النوافذ التي تخفي خلفها هياكل عظمية لأجساد تعرت من جلدها ،دوت تلك الصرخة ووصل صداها إلى أبعد مدى من حدود محتويات الفراغ ،إنها صرخة قلب تمزق صبراً عند مفترق نبضة ..
الزمان يشير إلى العاشرة صباحاً بتوقيت مدينة خلت من كل شيء إلا من دعسات امرأة عجوز على رصيف القهر ،كانت تسير بخطوات متثاقلة جداً وكأنها تسير نحو أيامها الأخيرة لا محالة ،الهواء العاصف بكل ما حولها حنّ على تجاعيد وجهها وترأف بحالتها ،كانت تدور الأفكار في رأسها كما تدور عقارب الساعة لتستعيد شريط ذكرياتها ،انحناءة ظهرها أعادتها بالذاكرة إلى يوم أنجبت ولدها الوحيد فارس ،إنها ككل أم على هذه الأرض ولكن مهامها تضاعفت بعد ثلاث سنوات من زواجها بسبب وفاة زوجها فكانت له الأم والأب ،أحنت ظهرها ليسير خطواته الأولى ،سهرت الليالي في مرضه لتخفض درجة حرارته ، غنت له لينام بسلام ، كرست حياتها من أجله ،عندما أصبح في المدرسة بدأت العمل في معمل لصناعة السكاكر والحلويات ،لن تنسى أبداً عندما كانت تدخل إلى البيت ومعها علبة حلوى أو قطع من السكاكر كي تدخل البهجة إلى قلبه مثل باقي الأطفال ،تقدم لها الكثير ولكنها رفضت الزواج كرمى لعينيه ..
استمر الزمن بالسير على قدميه حتى اشتد ساعد فارس ،وأصبح طالباً في كلية الهندسة إلى أن تخرج منها وحصل على وظيفة ومركز مرموق فكانت فرحتها لا تقدر بثمن ..
تذكرت الحوار الذي دار بينهما ذات مساء
- ولدي فارس لقد جاء الوقت لتكمل نصف دينك ،قل لي من تهوى لأطلب يدها لك
- لقد تعرفت على زميلة لي اسمها سارة في كلية الهندسة و نشأت بيننا علاقة حب
- هذا هو اليوم الذي أحلم به يا ولدي ..لتكن خطواتك مباركة
- ستعيشين في كنفي يا أمي طيلة حياتك ،لن أنسى فضلك عليّ
بينما كانت تتابع سيرها نحو الفراغ ،انهمرت دمعة من عينيها عندما تذكرت ذاك اليوم الذي تمنت فيه لو توفيت على أن تسمع ما سمعته ..
بعد زواج فارس انتقلت للسكن معه ،الأمر الذي جعل زوجته تعارض وجود والدته معه بعد فترة من الزمن .. - اسمع يا فارس ،أنا لن أتحمل وجود أمك معنا كل العمر
- ماذا تقولين يا سارة ؟وأين أذهب بأمي ؟
- لا شأن لي بذلك ،إما هي او أنا ؟
- هل تريدين أن أرميها في الشارع ؟
- كلا ،خذها إلى دار المسنين فهذا أفضل لنا ولها
-حسناً سأفعل ما تريدين
صدى موافقة ولدها نال من عافيتها بلحظة ،غابت عن الوجود ،تقلبت ليلتها على جمر المواجع بصمت ودموعها أغرقت الوسادة ..
آخر صورة ارتسمت أمام عينيها عندما كانت تمسكه بيده لتأخذه إلى الحديقة وهاهو اليوم يمسكها من يدها ليضعها في دار للمسنين وقد غاب عن ذهنه أنها قد تكون ليلتها الأخيرة .
القاصّة هند يوسف خضر ..سورية