أدب وفن

“عرس جنائزي” قصة قصيرة/ بقلم د. رائدة علي احمد

عرس جنائزي
لم أكن مدعوا في ذلك اليوم الذي حلمت به، منذ كانت تتخذ من صدري ملعبا لطفولتها، ووسادة للحب والغنج. وجدتني أشتمّ رائحة طفولتها، رائحة الأيام الطويلة التي عبرتها من دوني، تاركة ندبات خفيفة حول العينين والفم، كأنني طيف وسط حضور راقٍ، وهي تدلف الصالة وفي يدها يد لرجل غريب أخاله أنا، بدلة أنيقة، حذاء لامع، عطر يترنح في المكان، بريق الليل يعبث في ضفائره الحرير، أنوار تتلألأ في عينيه، خلف غابة من نخيل، ثم ضبطتني أتراجع خطوة إلى الوراء، فأحمل ذيل فستانها الأبيض المترامي، وأسير كالظل خلفها، رنوت إليّ فاعتقدتُني العريس، حينها شعرت بانفراج دامع في قلبي، يبدو أن الشعور تسلّل إليها، فرمتني بنظرة مجانبة، ثم اعتدلت، وتابعت. كدتُ أقع تحت سهام عينيها فتعرفني، فأربكها، غير أن الصدفة تدخلت، ورمت عليها ضبابا أبيض،سترت فضيحتي.
تتابعت خطواتنا وسط تصفيق حاد وزغردة نسوة وهتافات شبابية وموسيقى صاخبة وأجساد تتمايل مترنحة حتى اعتلت منصتها الملائكية، وما هي إلا دقائق حتى هدأ الموج البشري، واخذ الكلّ أماكنهم. بينما أنا ظللت ملتصقا بها، أنظر إلى الحضور مرحبا، مبتسما لهم، ها هم الأهل والأصحاب والأقارب وغرباء يهيمنون على المنصة، ينشرون الفرح في كل زاوية من زوايا الصالة، تتفجر ينابيع الحب من عيونهم، فتعلق حبيبات ماء على اهداب زوجي والأهل، يتمتمون يتمنون حضوري وهم لا يعرفون أنني بينهم.
كنت أضمها إلى صدري،أراقصها، أعدها بمستقبل زاهر، وبحياة مديدة، بينما هي تراقص عريسها، تقبله، فتقع القبلة على وجنتيّ، فأشتعل، يسير بها إلى المنصة، أرفع يدها إلى قلبي، تتسلل روحها إلى جسدي، فتحيني. أمعن النظر بها، بوجهها الملائكي، الذي استعارته مني، برشاقة جسدها الحرير الذي أخذته من والدتها، وأميل بنظري إلى الأهل والأخوة، أفكر كيف عبرتهم الأيام والسنين، وتركت ثقلها على أجسادهم، وبين العيون، كيف غيّرت ملامحهم، متى أشاح الليل عتمته عن رؤوسهم فاستحال سواده نهارات بيضاء. ألقيت عليهم التحية، رشقتهم ببقات حبّ وشوق، ضممتهم إلى روحي، شممت عمري من أكمامهم ، كلهم تغيروا، تبدلت أحوالهم، تزايدت اعدادهم، وعلى الرغم من ذلك عرفتهم فردا فردا.. أنا وحدي من بقي على حاله، ولم يعرفوني، أو يبالوا لي.. لم يكترثوا لحضوري.
وحين كان لا بدّ من الفراق، جمعتُ عزلتي، ولملمت غيابي الطويل، وطويت غربتي في جيب بدلتي الأنيقة، وهممت بالخروج، وإذا بصوت جنائزي يدبّ في الصالة، التفت إلى مصدر الصوت فإذا بوحيدتي ملقاة على الأرض، والكل يصرخ، ويولول، يحاول إيقاظها، غير انني عرفت من صوت داخلي، أنّ ما يحاولونه عبثا، وأن الموعد كان قد حان، ولن أعود وحيدا إلى دياري.

د. رائدة علي احمد/ ناقدة و روائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى