أدب وفن

في رحى الحياة الضّروس، هزمني ضرسٌ../ *نادين خزعل

في رحى الحياة الضّروس، هزمني ضرسٌ../ نادين خزعل.

في الحياة أناسٌ يوصفون بأنهم أقوياء…

تواضعًا؛ أنا من هؤلاء..
نمضي في رحلة العمر، نحارب أقدارًا ونجابه ظروفًا، ونغيّرُ مسارًا، ونعيد رسم مصيرًا، وكل أيّامنا مواقف كبيرة، حتى تفاصيلنا الصّغيرة، هي قضايا، وغالبًا ما ننتصر في كلِّ معاركنا، ولا تهزمنا إلّا رحى المشاعر أو العاطفة….

لم يكن هذا اليوم عاديًّا بالنسبة لي، ولو أنه كان كذلك ضمن جدولة الزمن والعمل والأصدقاء والأبناء….
كان اليوم ختام ثلاثة أسابيع من ألمٍ متتالٍ “تخاويت” معه أصاب أحد أضراسي…
كنتُ قبل هذه الأسابيع قد استقطعتُ من الوقت المتراكض على عجلٍ ليواكبَ عجلة “الأعمال” ساعةً خاطفةً قصدتُ فيها عيادة زميلتي طبيبة الأسنان د.فاديا بعلبكي، قصدتها وألمي محتدٌّ، ورجوتها أن تقتلع ضرسي، لكنّها رفضت بحجّة أنّه ما زال بالإمكان معالجته، بدأت عملها وأعطتني موعدًا ثانيًا بعد ثلاثة أيّام….

تخلّفت عن الموعد لعجزي عن استقطاع ساعة جديدة من جدول “أعمالي”…….
كيف لا؟
أولستُ مواطنة لبنانية في وطن الأزمات والإنهيارات؟؟
أولستُ مواطنة في دولة سرق فيها الفساد كهربائي وتركني أسيرة براثين أصحاب المولدات؟ ونفس ذلك الفساد تسبّب بانهيار راتبي وتآكل قيمته الشرائيّة وجعل لقمتي غير محصّلة إلّا بالكدّ من الفجر إلى النّجر وما دونهما نحرٌ للأمان بكلّ مسميّاته…

وعليه غضضْتُ الطّرف عن ألمي معتقدة أن مَن تُحاربَ قدرًا لن تنهزمَ أمام ضرسٍ….

صباح التاسع عشر من حزيران، بعد ليلة متواصلة من العمل توجهتُ إلى عملي الأوّل، يعتصرني الألم وأنا أقاوم بصلابة، أرتكنُ إلى المسكّن كل ساعتين…..
ضريبة الضّمير…
ولكن مهلًا، فليبقَ المسؤولون غافلين عن هذه الضريبة، إذ ربّما فرضوا قيمة مضافة عليها….ضحكتُ في سرّي: ضريبة على الضمير؟ فرض ضمير؟ ولكن الضمير يكون ولا يُفرَض….
ضميري منعني من ترك عملي والتوجه إلى عيادة صديقتي التي فقدت مني الأمل ولم تعد حتى تتصل بي….

أنهيتُ عملي الأول والثاني والثالث وبدأَ مفعول المسكنّات يتلاشى، إعتصرتُ مقودَ السيّارة بيدٍ، وباليد الأخرى هاتفت د.فاديا: ” إلغي كل مواعيدك أنا جاية هلق وما عاد فيي اتحمل الوجع”…..

ووصلتُ، جولة جديدة فاشلة من محاولة إقناع صديقتي الطبيبة باقتلاع هذا الضرس اللئيم…
مهلًا…كم تشبه أضراسنا علاقاتنا الإنسانيّة…كيف نهتمّ بها حين تكون مفيدة لنا وكم نرغب باقتلاعها حين تؤلمنا… هذا الضرس كم من السنوات رافقني وكم كان شريكَ ابتسامتي وشريك لقمة طيبة بعد جوعٍ وشريك جرعة ماء باردة في يومٍ صيفيّ حارّ ولكنني اليوم وبكل اقتناع أطالبُ باقتلاعه….

رفضت صديقتي، وعالجته مرممة إهمالي وملقية اللوم على ضميري وإيثاري وقالت لي: ” ضرسك أهم من أي شي بالدنيا…انت بس تنوجعي ما حدن حيحس فيكِ”….
قلتُ لها في سرّي: بلى، ثمة من يشعرون بنا ويتألمون لوجعنا ويسعون إلى بلسمته….
بدأتُ أشعر بتشوّشٍ…
الألم يطغى على الفلسفة..
واعترفتُ لها أنني منهارة من الألم…..
وغادرت عيادة صديقتي…

وصلتُ إلى المنزل….
شعرتُ بالحنق والغضب وأنا أصعد ثمانية طوابق مشيًا على قدمين واحدة منهما تؤلمني هي الأخرى….إمتدّ الدرج طويلًا جدًّا من المدخل إلى شقتي…لعنتُ كل مسؤول وكل منظومة وكل فسادٍ جعلنا في العام 2023 رهينة ساعات الكهرباء وتوقيت أصحاب المولدات…..أأعمل عملًا كاملًا بدوامٍ مرهق لا يكفيني ثمن فاتورة الكهرباء ثم أصعد الدّرج دون مصعد؟؟؟؟ أي بلاهة هي وأي تفاهة هذه القضية أن أدفع ثمن كهرباء لا أجدها حين أحتاجها؟؟

دخلتُ إلى منزلي..

إبني الكبير، وهو طالب جامعيّ، ينتظرني لأتناول معه طعام الغذاء…

إبني الأوسط الذي يتحضر لخوض الإمتحانات الرسمية طالعني بخبرٍ تسرّب عن الفوضى في الإمتحانات المهنية اليوم وقال لي أن أصدقاءه يعولون على عدم جدية الإمتحانات…طلبت منه أن يكمل درسه وأن لا يهتم للشائعات وأسفتُ في داخلي لهذا القلق المستبد بطلابنا…..

إبني الصّغير طالعني بأنه ضجر في المنزل….

تركتهم ولأول مرة طلبت منهم عدم محادثتي بأي شيء…. عذرًا، لا قدرة لي على تناول الغذاء ولا على كتابة مقال صحفيّ عما حصل اليوم في الإمتحانات المهنية ولا على معالجة الضجر..
أوصدتُ بابَ غرفتي..كان الألم يأخذ مجراه….كم هو وقحٌ هذا الألم…كم يتمادى….خرج من نطاق ضرسي وأصاب رأسي ورقبتي ونصفي الأيمن كله….بدأت أرتجفُ، اعتقدتُ أنه ألم سيزول ولكنه كان يمعن في إيلامي….هكذا هم البشر أليس كذلك؟ خطّاؤون نعم ولكن شتان بين خطأ وخطيئة….

أينَ أنتِ يا صديقتي….
لا…
ما يؤلمنا لا يُعالج…
ما يؤلمنا لا “يُرقّع”…
ما يؤلمنا يجب اجتثاثه من جذوره…..
ضرس العقل يشبه صوت العقل….باقي الأضراس فلنقتلعها….ما نفع ضرسٍ يفرحنا ثم فجأة دون سابق إنذار يكسرُ حَيلنا، يقلقنا، يوترنا، يقرفنا، يجعلنا مشمئزين، يائسين، وبالحدّ الأدنى غير مرتاحين..

فلسفة الألم مجدّدًا……
إنهارت مقومات صمودي، هزمني ضرسي، انفجرتُ باكيةً، حدقت بي مرآتي متعجبة، مِن أين أتى كل هذا الدّمع؟ لم تصدق أن ضرسًا حجمه سنتمتران تسبب بكل هذه الفوضى…..

دواءٌ جديدٌ….
إقتلاعٌ للمعجونة..
مسكّن قويّ..
وبدأ جماح الألم ينكبح……
لا أدري ما الذي حدث….
هل خفّ الألم أم اعتدتُ عليهٍ فاعتقدت أنه خفّ….

مجدّدًا يا صديقتي الطبيبة….
لا تعالجي الأضراس الملتهبة والمؤلمة……إقتلعيها…

*اعلامية و شاعرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى