أدب وفن

أعمال وفيق غريزي الشعرية :” رقة عشتروت تقطر على فمي عذوبة “

أعمال وفيق غريزي الشعرية :
” رقة عشتروت تقطر على فمي عذوبة “



بقلم الشاعًر والناقد سلمان زين الدين


من زمان يمارس وفيق غريزي حضوره في المشهد الثقافي ناقدا ومتابعا ثقافيا رصينا ، فتغني مقالاته الصفحات الثقافية ، ويفرد للكتب الفكرية والفلسفية هامشا كبيرا من متابعاته ، ويخصها بالقراءة الموضوعية الجادة ، فنتعرف الى الكتاب قبل ان نقراًه ، وقد تشكل قراءته حافزا لنا على القراءة ، على ان ما يميز غريزي عن سواه هو ان حافزه على الكتابة والكتاب لا الكاتب ، وان اكثر ممن يتابعهم لا تربطه بهم اية علاقة ، وبذلك يرقى بالمتابعة الثقافية عن درك الإخوانيات ، وسوق العلاقات العامة ، وقانون العرض
والطلب .
اليوم ، نتعرف إلى وفيق غريزي شاعرا ، ودفعة واحدة ، من خلال الأعمال الشعرية الكاملة ، في جزئيها الاول والثاني ، والحبل على الجرار ، واذا كان الشعراء عادة يقدمون شعرهم وأنفسهم بالتقسيط من خلال مجموعات شعرية تصدر على مراحل حتى إذا اكتملت يتم إصدارها كاملة . فان وفيق غريزي الذي لم يسبق له ان اصدر مجموعة شعرية واحدة ، يبدا من الاخر ، ويفاجئنا بجزئين اثنين من الاعمال الشعرية الكاملة ، والثالث تحت الطبع ، وثمة اجزاء اخري تنتظر دورها ، وهكذا ، يتيح لنا فرصة التعرف اليه شاعرا دفعة واحدة وليس بالتقسيط .
يضم الجزء الاول او المجلد الاول اربع مجموعات شعرية ، ويشتمل على تسعة وتسعين قصيدة او نصا يتراوح طول الواحد منها بين صفحة واحدة كما في ( متى يورق الفرح – والحضيض ، وهاوية الجوع ، )
وتسع وخمسين صفحة كما في ( لسماء عينيها الدافيتين ) المجموعة مولفة من نص واحد . ويضم الجزء الثاني او المجلد الثاني اربع مجموعات شعرية ( اربع دواوين ) ويشتمل على ماية وخمسين نصا ، يتراوح طول الواحد منها بين نصف صفحة كما في ( حناجر النجوم- طيور الماء – موت اللحظات ) وتسع صفحات كما في ( دمي المسفوح على الأعتاب – ) على ان الشكل الشعري يختلف بين القصيدة القصيرة والمتوسطة والطويلة ؛ فالأولى مجموعة من الأسطر المتعاقبة ، والثالثة مجموعة من المقاطع المرقمة المتعاقبة ، بينما تجمع الثانية بين الشكلين ؛
…………
عشتروت وأدونيس والأسطورة الفينيقيّة :
——————————————-
بالانتقال من الكم الى النوع ، ومن الشكل الى المضمون ، ولان هذه العجالة لا تتسع لقراءة الأعمال الشعرية الكاملة ، سنكتفي بقراءة المجموعة الاولى ( قصائد إلى عشتروت ) لعل الجزء يومىء الى الكل ، والقليل يضيء الكثير .
يحيل العنوان إلى الأسطورة الفينيقيّة المعروفة ، فعشتروت الهة الحب عند الفينيقيين تحب ادونيس المولع بالصيد وتقلق عليه ، وذات يوم يقتله خنزير بري فتلون دماوًه مياه النهر ، وتنبت شقايق النعمان ، وبالدخول في نصوص المجموعة ، يتقمص وفيق غريزي شخصية أدونيس شعريا ، تتربص به ” خنازير برية ” مكانية وزمنية وبشرية ، فيلوذ بعشتروت ، يغنيها ، يناديها ، يقدسها ، ويزف اليها جراحه الكثيرة ، لعلها تضمد ما يمكن تضميده ، فعشتروت المجموعة الشعرية مختلفة عن عشتروت الأسطورة ، وأدونيس / وفيق غريزي غير ادونيس الأسطورة ، والخنازير البرية المجازية ليست من سلالة الخنزير البري . تحضر عشتروت في المجموعة بالاسم والمعنى ، يرد اسمها في سبعة وعشرين نصا من اصل سبعة وثلاثين نصا، وتحضر بالمعنى في ساير النصوص ، وهو حضور متنوع ، مختلف إلى حد التناقض ، فهي المرأة الحبيبة المتمردة ، الطاهرة ، الرقيقة ، النصف الاخر ، المطر ، القربان الجسد ، المقدسه ، الالهة ، الجنازة . ولا ريب ان هذين التنوع والاختلاف يعودان الى تقلب احوال الشاعر إلى حد التناقض بين حال وأخرى .
في نص ( جبل الهموم ) يقول غريزي :
” جسدي غرفة مملوءة بالفراشات العابثة
جسد عشتروت باب مغلق
على قوارير الذهب والاسرار “.
فيرسم معادلة تختزل العلاقة بين الشاعر غريزي وموضوعه في كثير من النصوص . الشاعر المحاصر بالخنازير البرية على مستوى الزمان والمكان والبشر ، يرى في عشتروت المتنوعة المختلفة ، خشبة الخلاص الوحيدة ، وبذلك ، يمكن اعتبار هذا النص – المعادلةنصا مفتاحيا ، محوريا ، تمثيليا ، تشكل النصوص الأخرى تنويعات عليه . فكيف يتمظهر طرفا المعادلة في المجموعة ؟ وما هي الخنازير البرية التي تتربص بالشاعر ؟
كثيرة هي حالات الشاعر غريزي ، الطرف الاول في المعادلة ، ومعظم حالاته تنويعات على حالة الغربة والاغتراب وعدم التكيف مع الواقع ، وهي حالة معظم الشعراء والفنانين ، غير انها مع وفيق غريزي تبلغ مرحلة متقدمة إلى حد الاقتراب من الحالة المرضية التي تستعصي على العلاج . على سبيل المثال ، يبدو شاعرنا في حالة صلب في مناخ من البرودة والانتظار :
” أنا مصلوب على جلجلة الثلج
منتظرا قيامة الروًى
من كسل الزوايا “.
ويبدو في حالة وحدة وتوحد وسوداوية وحصار :
” أنا منفي من زمن الالوان
إلى جزيرة الذات المحاصرة بقبايل الشوك
والزبد “.

الواقع السوداوي القاسي :

يشذ الشاعر عن هذه الحالة العامة التي يتخبط فيها ، في بعض النصوص ، ففي نص ” ماهولة بالمعنى ” تخرج الانا الشاعرة من الإحباط والعجز والسوداوية والانفعال الى الفعل وامتلاك زمام المبادرة والقدرة على التأثير :
” افض شرنقة العجز
اصير في لاهوت الانطلاق
اروي ثمار الاتي
املاً رغباتي العميقة
من نسغ احتياجاتي “
وقد تجتمع حالتان في نص واحد ، بل في مقطع واحد :
” الخنازير البرية ” المتربصة بالشاعر متنوعة بدورها زمنيا ومكانيا وبشريا .
على المستوى الزمني ، يحس بعجز أدواته عن التصدي لزحف الزمن :
” الكلمات
اه يا عشتار
تقف خجلى امام فحولة الزمن “.
ويحس بعبثية الحياة وحتمية الزوال :
” الساعات العابثة
تسلب أوراق العمر الثملة بالاخضرار “.
ويحس بتلازم الحياة والموت :
” الريح تحمل كلماتي المتوهجة بالحب
إلى زوايا الكون
ملفوفةبشراع كفني “.
وعلى المستوى المكاني ، يبدو المكان مليئا بالموت ، كما في هذه اللقطة التي تعًكس قدرة وفيق غريزي على الرؤيا والاستشراف ، وتنطبق على واقع الحال في غير مكان عربي :
” الشوارع الممتلئة بأناشيد الموت
والألحان الجنائزية
تهاجر الى مدار الجحيم “.
ويبدو المكان مدنسا ، محترقا ، مرعبا ، مضجرا :
” مدينتي مدنسة
محمولة على اكتاف الحديد واللهب
مسورة بالرعب
بالشوك والضجر “.
اما على المستوى البشري تحضر ” الخنازير البرية ” بشكل غير مباشر ، من خلال المستويين الزمني والمكاني . في مواجهة هذ التموضع يبرز
الطرف الثاني في المعادلة ، ويمثل النصف المليء من الكاس ، ويتخذ تمظهرات عديدة غير انها في معظمها ايجابية ؛ فعشتروت في النصف الاخر الذي يكمل الشاعر ومعه يواجه سواد الناس :
” اه يا عشتار
ليكمل احدنا الاخر
ان العالم الممتد إلى اللانهاية
يتشح بالسواد
يقذف من جوفه الوان الماسي “.
وهي الثائرة الطاهرة :
” متمردةعشتروت التي اعشق كالفرس البرية
مليئةً بالطهر المخنوق بخيوط
منسوجة من عصب الايام “.
وهي الرقيقة :
” رقة عشتروت
تقطر على فمي عذوبة المشرق “
وهي المطر والقربان المقدس :
” عشتروت غيث الفصول
ترتوي منه الحقول
جسدها قربان معبدي
يتوهج قداسة كشموع الانبياء “.
وهي الحبيبة الالهية :
” حبيبتي عشتروت نايمة
على مضجع الالوهة
فوق قباب الستاير السوداء “.
يشذ عن هذا الحضور الإيجابي ، حضور سلبي نادر كما في قوله :
” على جبين عشتروت
يقيم العدم احتفالات ماتمية “.
ان الواقع السوداوي القاسي الذي يحاصر شاعرنا ينعكس في لغته الشعرية ، سواء على مستوى المفردة او الصورة اوالتركيب ، فثمة جرعة كبيرةمن العنف اللغوي تنطوي عليها النصوص ، تتمظهر في المفردات والتراكيب والصور ، وتعكس ما يذخر الشاعر من معاناةواغتراب ، زمنيا ومكانيا وبشريا ، فيقوم بالتنفيس بواسطة اللغة ، لعله يستعيد توازنا مفقودا ؛ ففي نص ” الحضيض ” على سبيل المثال الذي لا يتعدى ست جمل تقع على احدى عشرة مفردة تعكس العنف تصريحا او تلميحا ، من قبيل ، يحترق ، الرماد ، تجف ، دماء ، اضاعت ، ممزقة ، مدنسة ، الحديد ، الذهب ، الرعب والشوك . والأمر نفسه ينطبق على التركيب والصورة الشعرية ، بدرجة او اخرى ، كما نرى في التراكيب الصور الاتية :
” الغابة المطعونة تتلوى ” ” أجراس أبراج النهار الصاخبة ملونة بدم العصافير ” . ” عين البحر .. تقضم لحم جدران الشواطىء ” و ” افرس الريح الرافلة بأساور من دماء معلقة على مشانق عاصفة الاسى “
وبعد ، إذا كانت الأسطورة الفينيقيّة تزعم ان دماء ادونيس لونت مياه النهر وأنبتت شقايق نعمان ، فان جراح وفيق غريزي تضيف لونا جديدا الى نهر الشعر يميل إلى السواد ، مع الأسف ، وتنبت نصوصا وقصايد في حديقة الشعر ألتي ينبت فيها الكثير من الأشواك ، هذه الايام ، ما يكاد يحجب شقايق النعمان وشقيقاتها .
وفيق غريزي اهلا بك شاعرا!


———————————

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى