ميتاڤيرس/ قصة قصيرة / بقلم الكاتب رضا يونس- مصر
ميتاڤيرس/ قصة قصيرة
“يا لهذا المحَفَلِ! لقد بعثوني بعد رُقَادٍ. يبدو المكانُ فسيحًا للغاية، في الواجهةِ مسرحٌ رومانيٌّ قديم، تتوسطُهُ ساحةُ مصارعةٍ، يحيطُ بها مدرّجاتٌ ذات مصاطبَ تشبهُ أحجارَ الهرمِ الكبير، في خلفيةِ المسرحِ لوحةٌ ذات تفاصيلَ مُتزاحمة، يعلوها عينٌ جائعةٌ بنصفِ وجهٍ بشريٍّ يبدو ساخرًا، يتدلَّى من فِيهِ لسانٌ ذو شعبتين، في مقدمة المسرحِ مِنَصَّةٌ يتوسطُها قصيرٌ ذو عينين ضيقتين ورأسٌ رِبعيةٌ كبيرةٌ لا تناسبُ نحافَتَه، على يمينه عجوزٌ ذو ملامحَ غربية، بِطَاقةُ التعريفِ التي أمامه تُعَرِّفُ عنه باسم (مارك) وعلى يسارِ القَزْمِ كائن ذو ملامحَ شرقِ أوسطيةٍ، لم أستطعْ قراءةَ اسمِه؛ لجهلي باللغة العبريةِ. خلفَ الِمنَصَّةِ كورال لنساءٍ عاريات، يُغطِّين عوراتِهِنّ بألوانِ القوسِ الميميّ، وفي الأعلى شاشةٌ رقْمِيّةٌ لتقويمٍ بأرقامٍ صغيرةٍ ذات أضواءٍ خافتة، بالكادِ أتبَيَّنُ التقويم 2030، على يساره تقويمٌ آخرُ ذو إضاءةٍ مبهجة، تتراقصُ بالألوانِ السباعية.
رُويدًا. رُويدًا، تختفي أرقامُ التقويمِ الرباعيِّ الخافت.. فجأةً، تنطفئُ جميعُ الأنوار، فيبدو المسرحُ حالكًا إلا من التقويمِ القَزَحِي، وأصواتُ الحضورِ يُرَدِّدُ بلحنٍ واحدٍ 10، 9، 8،.. ،.. ،..1، صفر..
صافراتٌ صاخبةٌ غير متآلفةٍ تمتزجُ بصوتِ نزعِ غطاءِ زجاجاتِ الخمرِ المعتّقة، مدموغةٌ بخَاتم (تيودور).
يومئُ مارك برأسه، فتضيء الشاشةُ العملاقةُ بتقويمِ الميتاڤيرس، يتصدرُها الرقم 10 بحجمٍ ضخمٍ يعلوهُ كتابةٌ ساميّة، أستطيعُ تهجئتَها جيّدًا: “العامُ 10 للتقويمِ الافتراضيِّ”.
تعرضُ الشاشةُ فيلمًا وثائقيًّا لجموعٍ من البشرِ شاخصِي البصرِ، عَرَايا تمامًا، يهرولون تجاه بحرٍ هائجٍ ذي أمواجٍ تسونامية. بدا الأمرُ غريبًا للغاية، كيف لهؤلاءِ الحمقى أن يَقْذِفُوا بأنفسهم في أحشاءِ هذا الوحشِ الجائع! وكأنهم يُساقون كأسرابِ فراشاتٍ إلى مصيرِها المحتوم.
الجموعُ تهرولُ إلى الأعماقِ بلا توقف. زالتْ دهشتي حينما أبصرتُ مسْخًا عملاقًا خلفَ المدِّ يفرِدُ ذراعيه، قابضًا مغناطيسًا على شكل حدوة حصان أعجمي.. ولكن لماذا أنا هنا في المؤخرة، ولِمَ لَمْ أتبعِ القطيع؟!
أنظرُ خلفي، فإذا بخمسةٍ آخرين -رجلين وثلاث نساء – كلنا متشابهون، كأننا خرجنا من ذاتّ الرَّحم. بدَوْنا كالمخدَّرين إلا من عيونٍ ذاتِ حدقاتٍ كربونيةٍ أعلى الجبهة، فقط عيونٌ واسعةٌ تشغل حيِّزَ الأنفِ والفم. ما هي إلا مسافةٌ حتى ابتلع الجزْرُ الجموعَ الهائجة، فيما نحن ننظر بذهول.
يتقدم نحونا ستةُ رجالٍ أقوياءِ البنية، بوجوهٍ ممسوخة، ثلاثةٌ منهم يشبهون قرودًا استوائيةً ذات حوافرَ معقوفة، والآخرون يحملون ملامحَ خنازيرَ قطبيةٍ بأنيابٍ أُحادية مسنّنة. في يد كل منهم حقنةٌ كبيرةٌ تحتوي على سائلَ أحمرَ قانٍ، تسَلَّم كلٌّ منهم واحدًا منا. قيَّدونا من خلفٍ بأغلالٍ نُحاسِيَّةٍ ثقيلة، ثم عصَّبوا أعيننا بعَصَابَةٍ سوداءَ، مرسومٍ على أحدِ جوانبِها جمجمة يعانقها عظمتان متقاطعتان.. شعرتُ بوخزةٍ في وريدي الأيسرَ، غبتُ بعدها عن الوعْيِ تماماً. لا أدري بعد أي مسافة زمنية، شعرتُ بجُدُرِ مَعِدَتي تتعاركُ، ربما لا يحدثُ هذا إلا بعد فصلِ الطاقةِ عنّي لمدةِ مسافتين.
يحملني القردُ بين ذراعيه دونَ عناء، يضعني في صندوقٍ خشبيٍّ ثم يغلقُ سقفَهُ. بعد قليلٍ يلقي بي في جبٍّ عميقٍ ثلاثيِّ الأبعاد، أفقد وعيي مرةً أخرى دون َمُخدّرٍ؛ بفعل الارتطام بالحوائطِ الخانقة، ثم الاستقرار بالقاع.
أفَيقُ على صوتِ تقليب صفحاتِ كتابٍ وصَريرِ قلم، ويدٍ تنزعُ العَصَابَةَّ وتفكُّ أصفادي، ثم تجلسني على مقعدتي. يعود إليَّ بصري، فأنظر عن يميني وشمالي، لأجدَ شعاعيْ ليزر جُسِّما على هيئة بشريين افتراضيين كامليْ الخِلْقة.
أحدهما بصوتٍ جهوريّ يشبهُ ضحيج الزنّانة:
- ابدأ أنت يا موكي.
يمتنع موكي قائلًا: - بل ابدأ أنت يا نيكي، فقد خُلِّقْتَ قبلي بمائةِ عام، أنت باكورةِ البروتوكولات، أما أنا فآخرُها.
يقهقهُ نيكي: - يا لهؤلاء! أتذكَّرُ يوم حقنوا جيناتي بهذا السائل الورديِّ، وجمَّدوني في ذلك الأنبوب، ثم نقلوني إلى مختبرِ كوڤي بأحد المقاطعات الصينية، وألقوْني داخلَ كومةٍ من الثلج، حينها كتبوا على الأنبوبِ “نيكي الملاكُ الصغير”. سمعتُ أحدَهم يقول:” في الذكرى المائة سنحصلُ من هذه الخلايا على جينٍ آخرَ، ثم نُخْرِجُ بعدها الوحشَ من الكهفِ”.
- يبدو أنه نفسُ السيناريو قد أُعِدَّ لي بَحرفيّةٍ عالية، فقد وضعوا جيني المُخَلَّقَ في أنبوبٍ مُماثل، وكتبوا عليه: “مونكي القردُ المدلَّلُ” لا أنسى تلك الجملةَ التي ذكرها أحدُهم وهو يخاطُبُ زميلَه: ” نحنُ الآن في العام 2019، وسيحتاج ُهذا الجينُ إلى عشرِ سنواتِ لتنموَ أنسجتَه”.
- إذن، لنبدأ التَّجْرِبةَ الأولى -قال نيكي- ثم ضغط بقوةٍ على عجبِ الذنَبِ خاصَّتِي أسفلَ مؤخِّرتي، فأفرزَ سائلًا دافئًا، شعرتُ بانسيابِه في شِرياني.
نيكي: - يبدو أن ذبذباتِ الشَّرِيحةِ تعملُ بكفاءَةٍ. هيّا، هيّا يا مونكي، لدينا جدولُ أعمالٍ مزدحمٍ لهذا اليوم. ثم مُوجِّهًا حديثَه إليَّ:
- لديك اختبارٌ سهلٌ من ثلاثِة أسئلةٍ، ولديك في المقابلِ ثلاثُ فرصٍ للجواب، ولكنْ هل، تتذكَّرُ اسمَكَ قبل أن يأتوا بكَ إلى هنا؟
أُجيب: - لا أذكرُ شيئًا.
- حسنًا، اسمك الآن ( آر. ميتا 1 ) دعنا نجرِّبُ الشريحةَ أولًا: ما اسمك؟
- آر. ميتا 1
- أحسنت، ثم يخاطبُ رفيقَه:
- دورُك يا مونكي.
مونكي: - هذا السُّؤال هو سرُّ الشريحةِ، إن وُفِّقْتَ في الإجابةِ عنه، فما بعدَه أيسر: مِنْ ربُّكَ؟
يبدو السُّؤال سَاذَجًا للغايةِ! فهل هناك ربٌّ غير خالقِ البشر؟! البشر! وهل أنا بشريٌّ؟! - لا أدري، كانت إجابتي، بعد تلعثُمٍ ومحاولاتٍ جاهدةٍ لنطقِ أولِّ أربعةِ حروفٍ متقطعات (ا ل لَّ…) يقطعُ لعثَمتِي موجةٌ شلّاليَّةٌ تنسابُ داخلَ شراييني، يتبعُها ارتعاشةٌ لا تتوقفُ، فأسمعُ صوتي بلا لساني:
- ربِّي…. بُوذا.
يقهقِهُ مونكي بصوتٍ غليظٍ يُحْدِثُ صدًى يصطدمُ بالجدرانِ الخانِقَة، فُتُهِيلُ بعضَ الترابِ على وجهي، ثم يقول: - أحسنتَ، أنت توفِّرُ علينا بذلَ مجهودٍ لاستخدامِ هذه المِطْرَقَةِ الثَّقيلة – نيكي، تابع.
يضحكُ نيكي ضَحِكَةً ممزوجةً بالحِنْقِ، مُتَمْتِمًا بصوتٍ خافت: - أيها المونكي المحظوظ! كيف كلّفُوك بِالسُّؤالِ الأعظم، وأنت مازلتَ تَحْبُو؟
يسمعُهُ مونكي رغمَ وأدِهِ نصفَ جملتةِ قائلَا: - لا عليكَ صديقي، فأنتَ خُلِّقْتَ من جِيني الأعْوَج.
نيكي يمنحُنِي السَّؤالَ الثَّانِي: - ما دينُك؟
ديني! بالتأكيد هو دينُ السَّماء، قرأتُ في طفولتي أنَّ النّاس جميعًا ستُبْعَثُ عليه يومَ القيامةِ. أوليسَ هو؟
تُزَمْجِرُ الشَّريحةُ غاضبةً، فيفورُ السائلُ الحارقُ، لِيُغْرِقَ دَواخِلي، حتّى يصلَ إلى رأسي، فينطق ذاك اللسان: - أنا وثَنِيٌّ، لا دينَ في ذاكرتي..
يُقَهْقِهَانِ سويًّا، ثم يتناولُ مونكي المِقْوَد: - السُّؤالُ الأسهل: ماذا تقولُ في الرجلِ الذي بُعثَ فيك؟ سؤالٌ بدائيٌّ، لا يستدعي لعثمتَكَ السابقة. هيّا أجبْ، لدينا مهامٌ أُخْرَى لهذا اليومِ التَّعيس.
- الرَّجُلُ الذي بُعِثَ فِيَّ؟! أوليسَ من أولِي العزْم؟ -أُحدِّثُ نفسي- نعم هو ذا، فأنا أحفظُ تعاليمَ الوحيِّ عن ظهرِ قلب. قلب..! ولكن أين قلبي؟! لا أسمعُ دقَّاتِهِ، وعقلي يبدو ٱنه صُهِرَ وأُعِيدَ تشكيلُ وعيِهِ، ممزوجًا بهذا السائلِ القاني.
مونكي: - يبدو أنَّ الذي خَلَّقَ عَلَقَتَكَ كان غبيًّا للدرجةِ التي تتباطَأُ فيها عن الإجابةِ عن سؤالٍ بهذه السَّذاجةِ، صارِخًا فيَّ “هيّا”.
- نعم ..نعم، الرُّجلُ الذي بُعِثَ فيَّ هو ذاكَ المسْخُ، الذي يقْبَعُ في دَرَكاتِ القاع.
مونكي: - الإجابةُ ناقِصة… ما اسمُهُ؟ لن تحصُلَ على العلامةِ الكاملةِ إلّا إذا ذَكَرْتَ اسْمَهُ.
- اسمُهُ المَـ.. المَسِـ…،لا أتذكّرُ سِوى أنّه دجّالٌ يسكنُ أعماقِ المُثلَّث، لديه القدرَةُ على تغْيِيبِ الإدراكِ، فيتبعُهُ الهالكون الملعونون، قرأتُ ذلك في مقتبلِ شبابي بكتاب (موسوعة اللَّاهوت).
- الإجابةُ صحيحةٌ، ولكن دون نجومٍ كالتي كنتَ تحصُلُ عليها من معلمةِ الدِّين. هنِيئًا لك فقد اصطَفَوْكَ كممثلٍ لليابسةِ الواقعة بين النَّهرِ والمحيطِ.
أسمعُ صوتَ خَاتَمٍ يَدْمِغُ صحِيفَتِي التي بين أيدِيهِمَا، ومن ثَمَّ يردِّدَانِ في صوتٍ واحد: - ناجح، وتَمَّ اعتمادُكَ كعبدٍ للرّبِ الجديد.
ثم يَحْقِنَانني بسائلٍ أخضرِ اللَّون، فأغيبُ عن وعْيِي مسافةً، أفيقُ بعدَه، لأجدَ أحدَهم يضغطُ على جهازِ إشارات، فيتوقف مقطعُ الفيديو في نهايته على كلِمةِ البدايةِ بلونٍ أسودَ حالِك بظلالٍ دموية.
تصفيقٌ وصافراتٌ صاخبةٌ تُعانِقُ الآذانَ الواسعة؛ احتفالًا بإتمامِ البروتوكولِ الأخيرِ وسْطَ عِناقٍ ثُلاثِيِّ المِنَصَّةِ ينحنى للجمهور.
من جديدٍ يتقدمُ أحدُهم نحوي، يعصِّبُني ويعيدُ الأصفادَ إلى أطرافي..”