أدب وفن

انتهاك السكون الأخير: حين تغدو الكاميرا شاهدًا على موت الكرامة

د. دورين نصر

انتهاك السكون الأخير: حين تغدو الكاميرا شاهدًا على موت الكرامة

في زمنٍ باتت فيه الصورة أبلغ من الصمت، تسلّل الإعلام إلى أقدس مناطق الغياب: الموت. لم يعد الميت يُترك لراحته الأخيرة، بل صار جسده مادةً إعلامية، تُعرض على الشاشات وتُنشر على المنصّات بدمٍ لم يجفّ بعد. كأنّ العدسة لم تَعُد أداة توثيق، بل مشرطًا جديدًا يُمزّق حرمة الجسد بعد أن هدأ.

ما الذي يدفع الصّحافة إلى ملاحقة الميت حتّى قبره؟
إنّها شهوة السبق، ورغبةٌ في الإثارة تفوق احترام الإنسان ذاته. يُصوَّر الميت في تابوته، وتُلاحَق جنازته كما تُلاحَق نجوم الحفلات، ويُفتح التابوت بعدساتٍ تبحث عن “اللّقطة”. وهكذا يُختزل الوداع في مشهدٍ متداول، تتسابق عليه القنوات بعناوين مثيرة: “اللحظات الأخيرة”، “الدموع في التشييع”، “هكذا دُفن فلان”.

لكن من يمنح الإعلام هذا الحق؟
ليس الموت حدثًا عامًا، بل هو لحظةُ انسحابٍ من العالم، تتطلّب سكينةً واحترامًا، لا شهودًا ولا تصفيقًا. حين يُصوَّر الميت، يُنتزع منه ما تبقّى من كرامته، ويُجرَّد الأهل من حقّهم في الحزن الصامت. لقد صار “حقّ الموت” — ذلك الحقّ الإنساني في أن يُنسى المرء بكرامة — منتهكًا باسم الشفافية والاهتمام العام.

الإعلام النبيل لا يقتحم المقبرة، لا يصوّر الوجه الشاحب، بل يروي السيرة. فالحقيقة لا تسكن في التابوت، بل في حياة صاحب التابوت.

لقد آن للعدسات أن تنزل الكفّ عن الغياب. فالميت لا يحتاج من يشيّعه بالكاميرا، بل من يقرأ عليه السلام.
ولعلّ أصدقَ ما يمكن أن يُقال في هذا الزمن المصوَّر:
ليس الموت ما يهين الإنسان، بل نظرتنا إليه وقد فقدنا فيها الاحترام.

بات علينا أن نكتب وصيّتنا كالتالي:
حين نموت، لا تصوّرونا، لا تُعلّقوا وجوهنا على الشاشات.
ضعوا وردة، وامضوا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى