السيِّدةُ”مَرْيَم العذراء” في الكتاب المقدَّسِ والقرآن الكريم (رؤية للدكتور أسعد السكاف)
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
يَسعى النَّاسُ،اليومَ، مسيحيون ومسلمون، مؤمنون وملحدون، متعلِّمونَ وجهلة، في زمنِ رُعْبٍ راهنٍ ما انفكَّ يرتعُ ماجناً في أحضان وباء “كورونا”، إلى نجاةٍ لأنفسهم. يلهثُ ناسُ الإنسانيَّةُ جمعاء اليومَ، صارخين من وجعهم، خائفين من ضعفهم، متلهفِّين إلى إشراقة نجاةٍ لذواتهم، كلٌّ وفاق ما يجده درب خلاصٍ له من جلجلة “كورونا” الباغيَّة.
يستريحُ كلُّ واحدٍ من النَّاسِ، من عناء لهاثه، عند ما قد يعتقد به ويرتاح إليه؛ فكراً أو شعوراً، حدساً أو يقيناً. ومن هنا، من هذه النقطة بالذَّات، تحضر قراءة الدكتور “أسعد السكاف”، للحضور المريمي. هو حضور “مريم” المباركة، كما يذكر “إنجيل لوقا” 1:42: “مبـاركة أنـت فـي النسـاء ومبـاركة هـي ثمـرة بطنـك”؛ وهي “مريم” المختارة الطَّاهرة المطهَّرة، كما يرد في “القرآن الكريم” من سورة “آل عمران”: 42: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. هي، أيضاً، “مريم”، والدة مخلِّص الإنسانيَّةِ جمعاء، كما يذكر “إنجيل يوحنَّا”:١٦ “فَإِنَّ ٱللهَ أَحَبَّ ٱلْعَالَمَ كَثِيرًا حَتَّى إِنَّهُ بَذَلَ ٱلِٱبْنَ، مَوْلُودَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُمَارِسُ ٱلْإِيمَانَ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ”.
وهي، كذلك، “مريم” والدة السيِّد “المسيح”؛ وقد ذكر في “القرآن الكريم” مِن سورة “مريم”: 31-32 “وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا”. وهي، وكيفما دار الأمرُ، “مريم”، التي، وفاق ناسُ المنطقة العربيَّة، من مسلمين ومسيحيين، المكرَّمة الصَّابرة على ابتلاء الله، والفرحة بما نالها من نعمة هذا الابتلاء.
هكذا يطلُّ الدكتور أسعد السكاف في كتابه “مريم في الكتابين”؛
مُضَمَّخاً بعبيرٍ مَرْيَمِيٍّ، أَريجُه مَحَبَّة تَجْمَعُ، ومُتوَّجَاً بنورٍ مَرْيَمِيٍّ سَناهُ رؤية لٍوحدةِ الإنسان، يكتب الدكتور أسعد السكاف عن “مريم في الكتابين”.
وجودُ “مريم”، البتول والطَّاهرة والمختارة من لَدُنِ الله، هو لبُّ هذا العمل؛ وظهورها في “الكتاب المقدَّس” و”القرآن الكريم” يشكِّل مدار العملِ وميدانه؛ أمَّا الغايةُ من كلِّ هذا، عند الدكتور السكاف، فدعوة “مريميَّة” إلى التَّلاقي بين النَّاس، رغم كل ما يخالونه مُفَرِّقاً بينهم من معتقدات ومفاهيم وطقوس؛ إذ هم ينبثقون في جوهرهم من واحد، ويمشون في مساعيهم إلى واحد؛ وهاهي ذي “مريم” مثالهم في كلِّ هذا وهاديهم إلى كلِّ هذا.
ينهضُ عمل الدكتور السكاف، ههنا، على خطَّة بحث موضوعيَّةٍ قوامها منهج وصفي استقصائي مقارن؛ إذ يعرض المؤلِّف لما يرد من نصوص عن “مريم” في الكتابين. يتبيَّن، عبر هذا العرض، أن قَلَّ من الإنجليين الأربعة (متَّى ومرقس ولوقا ويوحنَّا) مَن قدَّم إشارات واضحة إلى “مريم”، سوى “لوقا الذي لا تخفى على أحد حماسته للعذراء وسعيه إلى إبراز دورها الفاعل في حضانة المسيح ورعايته”. وإذا ما انتقل الدكتور السكاف إلى “مريم” في القرآن الكريم، فإنَّه يلاحظ أن “إطلالة مريم في القرآن الكريم تعود إلى ما قبل مولدها” لترافقها في محطات أساسيَّة من مراحل حياتها، ولتنتهي لحظة تقديمها وليدها السيد المسيح إلى النَّاس.
يخلص الأمر إلى أن صورة “مريم” تتحصَّل في اللاهوت المسيحيِّ ارتِكازاً على ما يُقَدِّمُه الإنجيليون الأربعة من إشاراتٍ وبناءً على وُجهاتِ نَظَرٍ متفاوتةٍ هي بِنْتُ الدَّرسِ اللاهوتيِّ بمختلفِ توجهاته. أما صورة “مريم” في الإسلام، فلا تأتي إلا من النصِّ القرآني من دون سواه.
وقد يكون من المفيد، في هذا المقام، الإشارة إلى بعض نقاطٍ تستأهل مزيداً من البحثِ في هذا المجال. ومن هذا القبيل أنَّ النَّصَّ القرآني يحسم، منذ اللحظة الأولى حصانة مريم وعفَّتها وخاصَّة في ما يتعلَّق بعذريتها، إذ يشير إلى أن ما بشَّرها، من قِبَلِ الله، بحملها للسيد المسيح، قد تمثَّل لها بشراً سويَّاً! واللافت في الأمر، أن النَّصَّ القرآني لم يستخدم في هذا المقال لفظ “إنسان” بل استخدم لفظة “بشر”، عِلماً أنَّ لفظة “إنسان” ترد في تضاعيف النَّصِّ القرآنيِّ، بل ثمَّة سورة من القرآن الكريم اسمها سورة “الإنسان”! وغاية الأمر، أنَّ لفظة “الإنسان” تختلف عن لفظة “البشر” في دلالاتها، إذ “البشر” تشير إلى التشكُّل والهيئة، بدلالة البَشَرَة، في حين أن لفظة “الإنسان” تدلُّ على الإحساس والشُّعور، بدلالة الأنس. ومن هنا، فإنَّ ما تمثَّل لـ”مريم” كان، تنزيهاً تأسيسيَّاً لها، بشريَّاً بِشَكْلِه، ولم يكن إنساناً بأحاسيسه ومشاعره وغرائزه على الإطلاق.
وثمَّة أمر آخر يدعو إلى مزيد من المقارنة، يَكْمُنُ في أنَّ النّصَّ القرآني يَحكي عن “مريم” منذ أن كانت جنيناً في رحم والدتها، ويتابع مسيرتها خطوة فخطوة إلى أن تُقَدِّمَ وليدها المسيح إلى النَّاس، ثمَّ يسكت النَّصُّ عنها سكوتاً نهائيَّاً مفاجئاً لمشار السِّياق التَّفصيليِّ لحكايته عنها؛ وكأنه يشير إلى أنَّ ما يهم النَّصَّ من أمرها ينحصر في موضوع مُعيَّنٍ محدَّد بولادتها للمسيح من دون سواه!
يبحث الدكتور السكاف، تالياً، في نقاط التَّلاقي بين الصُّورتين المتحصِّلتين لـ”مريم” من الكتابين؛ ويجد، تالياً، أنَّ مجالات التَّلاقي كثيرة جدَّاً؛ وينطلق من ههنا إلى التَّأكيد بأنَّ “ليست صورة العذراء هي الجامع الوحيد الذي تتلاقى فيه التعاليم في الديانتين السماويتين، إنَّما هناك الكثير مما تتوحَّد في رحابه السمحاء الآراء والمواقف”، بل “إن نقاط التلاقي في الكتابين تربو على نقاط الاختلاف أضعافا”.
هو ذا عطرُ المحبَّة المريميِّ الذي ينبض به قلب هذا المؤلِّف الموضوعي العامر بالإيمان؛ وهو ذا البحث العلميُّ المنهجيُّ الذي يسعى صاحبه إلى خدمة الإنسان في حياتة المجتمعيَّة والوطنيَّة هي التي بأمس الحاجة إلى الوحدة والتآخي. وهي ذي دعوة المحبَّة الصَّادقة، تنطلق من قلبٍ صادقٍ في إيمانه إلى آخر، هو أخ إنسانيَّةٍ لا يمكن الاستغناء عن الإنسانيَّة فيها على الإطلاق.