شفيق جدايل: المُثَقَّفُ والمربِّي والكَشَّاف (الحلقة الثانية)
الدكتور وجيه فانوس
لَعَلَّ «شفيق جدايل» وَرِثَ عن والدهِ، بِحُكْمِ عملِ الوالدِ في مجالِ العطورِ وبِحُكْمِ عِشْرَةِ الابنِ لأبيهِ، حِسَّ التَّذوُّق الجماليِّ والسَّعيِّ الدَّؤوبِ إلى الأناقةِ المُتْرَفَةِ؛ بَيْدَ أنَّ شَفيقاً حَوَّلَ هذا الإرثَ مِنْ فاعليَّةٍ لهُ في مجالِ العُطور،ِ عِنْدَ والدِهِ وبعضِ أخوتِهِ الذين تابعوا عَمَلَ الوالدِ بنجاحٍ؛ إلى مجالِ التَّعامُلِ مع اللُّغةِ العربيَّةِ، إنشاءً وأداءً. ومِن جهةٍ أُخرى، فلقد اكتسبَ «شفيق جدايل» من «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة» بَذْرَتَيْنِ أساسيتين طبعتا حياته بطابع كلِّ منهما. أولى البَذرتين بذرةُ التمكُّنِ من أصولِ اللُّغة العربيَّة، بصرفها ونحوها وبيانها وبلاغتها؛ فلم يكن «شفيق جدايل»، في كلِّ محطَّاتِ حياتهِ وعَمَلِهِ ووجودهِ، إلاَّ سيِّداً من ساداتِ هذه اللغةِ. وثاني البَذرتين هي انتسابه إلى الحركة الكشفيَّة، إثر التحاقه بـ «الكشَّاف المُسْلِم». وتابَع شفيقٌ، منذ كان في السَّابعة من سنيِّ حياته، هذا الانخراط خلال دراسته في «كليَّة المقاصد»، وظل كشَّافاً حتَّى آخر العمر. وكان لـ «شفيق جدايل»، أن يختبر، عبر انتمائه الكشفيِّ هذا، الحياة الاجتماعيَّة ويستوْعب أصول التَّعامل مع الآخر والتَّفاعل الإيجابيِّ الخلاَّق معه ويفهم أهميَّة حبِّ النَّاس واكتساب محبتهم في بناء حياة اجتماعيَّة ناجحة؛ ويعتمد هذه الأمور، بِرُمَّتِها، تالِياً، دَيْدَناً له في حياته العامَّة منها والخاصَّة.
شكَّلت النَّشاطات الكشفيَّة منطلقاً لمواهب «شفيق جدايل» في مجالات الخطابة والكتابة والنَّظم والقيادة؛ إذ كان له نشاط كشفيٌّ مكثَّفٌ؛ فساهم في تأسيس حركة «الكشَّاف المسلم» في لبنان، وأصبح من قادتها المرموقين، كما حصَّل أوسمة وشارات كشفيَّة عديدة وَنَظَم «نشيد الكشَّاف»، الذي أصبح فيما بعد النَّشيد الرَّسميَّ لعدد كبيرٍ من الحركات الكشفيَّة العربيَّة، كما ألَّف النَّشيد الكشفيَّ المعروف عربيَّاً وعالميَّاً «هيَّا إلى اللقاء».
الواقع، أنَّهُ بتوجيهٍ من الشَّيخ توفيق الهبري، رئيسُ مجلس أُمناء مدرسة «دار العلوم»، نَظَّم محمَّد عبد الجبَّار خيري سنة 1912، أوَّل فَوْجٍ كشفيٍّ في مدينة بيروت. ولكن عند نشوب الحرب العالميَّة الأولى، عاد خيري إلى بلده الأصليِّ الهِنْد، فتولَّى أمور هذه الحركةَ الكشفيَّةَ، من بعدِهِ، محمَّد عمر منيمنة، بالتَّعاون مع محي الدِّين النُّصولي وبهاء الدِّين الطبَّاع وسعيد سنُّو. وكان أن توقفت نشاطات الحركة، بسبب من أحداث الحرب العالميَّة الأولى، لِرَدحٍ من الزَّمنِ، ثم عادت للظُّهور باسم «الكشَّاف السُّوري». وتحوَّل اسم الحركة، بعد تكوين «دولة لبنان الكبير» المستقلَّة عن سوريا، إلى اسم «الكشَّاف المُسلم»؛ في 30 أيلول (سبتمبر) سنة 1920؛ أي بعد زهاء سبعة أشهر من ولادة «شفيق جدايل».
بدأ «شفيق جدايل» حياته المهنيَّة في عُمْرٍ مُبْكِرٍ؛ ويبدو أنَّه آثر أن لا يكون مثل أخويهِ اللَّذين تابعا عمل والِدِهِم في مجال العطور؛ فتوجَّه إلى مجالٍ لعلَّه اختاره عبر أخلاقه الكشفيَّة الصَّادقة وقدراته العلميَّةِ المُتَمَثِّلةِ في إتقان فذِّ وحب جارفٍ للعربيَّةِ لغةً وأداءً وجمالاُ وهويَّة. واقع الحال، لقد وقع اختيارُ «شفيق جدايل»، من منطلق إيمانه بالدَّور الرِّسالي وشدَّة تعلُّقه بنصاعة اللغة العربيَّةِ، سلك التَّدريس ينضمُّ إليه. وهكذا، التحقَ سنة 1939، وهو في التَّاسعةِ عشرة من سنيِّ عمره، بِرَكْبِ المُدَرِّسين؛ واتِّخذَ من تَدريسِ اللغةِ العربيَّةِ والعيشِ في رحابِ آدابها والتَّلَذُّذِ بجمالاتها، رسالةً يحيا في سبيلها وهُوِيَّةَ مهنةٍ يَعْتاشُ ولو مِنْ كَفافِها. لقد أحبَّ «شفيق جدايل» التَّعَلُّم والتَّعليم من يفاعته؛ وأراد، بكلِّ وعيه وإيمانِهِ ورغبته، أن يحيا في هذا المجال. وكان أن شَرَّعَت له «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة» أبوابها ليكونَ في عِدادِ مُدرِّسيها؛ ولعلَّ هذا جاء نتيجةَ أمرين أساسيين. أوَّلُ الأمرين وفاءُ شفيقٍ لمدرستِهِ الأولى، وخاصَّة لأستاذه فيها ومؤسِّسها ورائدها الشَّيخ محمَّد عسَّاف؛ وثاني الأمرين إيمانُ المدرسةِ الرَّاسخِ بقدراتِ «شفيق جدايل» العلميَّة وإمكانيَّاته التَّعليميَّة، فضلاً عن سَعيها الصَّادقِ إلى توفير فُرَصِ العمل للنَّابهين من خرِّيجيها. والتحق «شفيق جدايل»، كذلك، وفي تلك المرحلة، وربما بناءً على الأسباب عينها، معلَماً في مدارس «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، التي نهلَ في رحابها دراسته للمرحلة الثَّانويَّة وتخرَّج فيها بشهادة البكالوريا.
درَّس «شفيق جدايل» اللُّغةَ العربيَّة في مدارس المقاصد لِرَدْحٍ طويلٍ من الزَّمنِ، وكانَ يَعْمَلُ، كما تُشيرُ سِجِلاَّت «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، في أكثر من مدرسةٍ للجمعِيَّة. لقد درَّسَ في «كليَّة المقاصد» (ثانوية الحرش) كما تولَّى فيها، في بعض الأحيانِ، وإضافةً إلى التَّدريسِ، شؤون النَّظارة الإداريَّة. ودرَّس، كذلك، في «مدرسة عمر بن الخطَّاب» (مدرسة الفاروق)، وكذلك في «مدرسة عثمان ذي النَّورين. ويبدو أنَّ هذا التَّدريس، على فرح الأستاذِ شفيقِ بهِ وافتخارهِ بالذين تلمذوا عليه من أبناء هذه المدارس وروَّادها، قد أصابه بالتَّعبِ المضني، خاصَّةً وهو يتنقَّل من مدرسةٍ إلى أخرى ومنطقة في بيروت إلى سواها، فضلاً عن ما يسبق كلَّ هذا ويلحق به من تحضيرٍ للدروس وتصحيح للمسابقات والفروض المنزليَّة ومتابعة للأمور الإداريَّة. وكان أن اختار الأستاذ جدايل أن يَحْصُرَ تدريسه في مدارسِ «جمعيَّة المقاصد»، من سنة 1943 وحتَّى سنة 1964؛ لِيَكونَ هذا التَّدريسُ في مدرسة «أبي بكر الصدِّيق»، وحدها. إنَّها، في واقع الحال، أوَّل مدرسة أُدْخِلَ إليها «شفيق جدايل» في حياته، وكانت، عهد ذاك، تحمل اسم «مدرسة القنطاري»؛ فالوفاء، عند «شفيق جدايل»، طَبْعٌ وأخلاقٌ وقِيَمٌ وعَمَلٌ وجمالُ عطاء.
نَظَمَ الأستاذ جدايل، في أجواء التَّدريس ولصالحه، عدداً كبيراً من المقطَّعات الشِّعريَّة ووضع كثيراً من الخطب والنُّصوص المسرحيَّة. وكأنَّ التَّدريس كان نافذةً له يطلُّ منها على الأدب، والشِّعر منه خصوصاً، بصفة الشَّاعر والمسرحيِّ وليس بصفة المُدَرِّس؛ وكأنَّ «شفيق جدايل» أبى إلاَّ أن يَقْرُنَ قوله في تدريس تلاميذه اللُّغة العربيَّةَ وآدابها، بممارسته لما يُدَرِّسه أمامَ تلاميذهِ هؤلاء؛ وكأنَّ الوجودَ الإنسانيَّ عنده واحدٌ، لا فرق فيهِ بينَ قوْلٍ وعَمَل. ومن أشهر مسرحيَّاته، في هذا المجال مسرحيَّة «ملاك الرَّحمة» ومسرحيَّة «السَّاحر المتنكِّر» وكذلك مسرحيَّة «إسلام عمر»، التي وضعها سنة 1950؛ ولاقت رواجاً بين الطلاَّب والمدرِّسين والأهل، وجرى عرضها لأكثر من مرَّة؛ كما قامت «إذاعة لندن» ببثٍّ خاص لها سنة 1951. ومن جهة أخرى، فقد كان لـ «شفيق جدايل» أن يقوم بتدريس اللغة العربيَّةِ، نُطْقاً وكتابةً، لِعَدَدٍ من الباحثين والدَّارسين الأجانب؛ ومن هؤلاء الباحثة الهنديَّة في «علوم اللُّغة» الدكتورة «نيلون موكي».
نَشطَ «شفيق جدايل» في المجال الاجتماعيِّ، عاملاً في سبيل خدمة ناس بلده؛ وكانت له عدَّة مشاركات في جمعيَّات ومؤسَّسات خيريَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة. ولعلَّ من أبرز اهتماماته هذه انتسابه إلى «رابطة الشَّباب الإسلاميّ» بصفةِ مستشارٍ لرئيسها الشَّيخ الشَّهيد أحمد عسَّاف، ابن أستاذه في «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة» الشَّيخ محمَّد عسَّاف. ولقد شارك «شفيق جدايل»، بصورة أساسيَّة، مع رئيس الرَّابطة الشَّيخ أحمد عسَّاف، سنة 1964، في إجراء الاتصالات العامَّة لإنشاء «المركز الإسلامي» في منطقة عائشة بكَّار؛ كما كان يُشارِكَ في عديد من نشاطات هذا المركز، الذي يُعتبر «شفيق جدايل» من أوَّل مؤسِّسيه. ومن جهة أخرى، فقد اعتاد «شفيق جدايل» تقديم نصوص لمسرحيَّات كانت تُقَدَّم من على مسرح «مؤسَّسات دار الأيتام الإسلاميَّة» في حفلات اختتامِ بعض المواسم التَّدريسيَّة السَّنويَّة؛ كما كان من مشجِّعي «جمعيَّة رعاية الطِّفل اللبنانيّ». وهكذا، لم يعد «الصَّوت»، صوت «شفيق جدايل»، محصوراً بقاعات المدارس وباحاتها؛ بل أضحى صادحاً، بجماله وقوَّة حضوره وروعة لغته العربيَّة الفصحى، من على منابر المؤسَّسات الإجتماعيَّة والثَّقافيَّة، فضلاً عن تلك الكشفيَّة والتَّربوية.
يمكن القول إنَّ سنة 1945 تشكِّل محطَّةً مميِّزةً أخرى في مسيرة «الصَّوت»، صوتُ «شفيق جدايل». ولقد انطلقت مسيرة جدايل هذه المرة، عبر هذه التحاقه، في هذه السَّنة، مُذيعاً في «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت»، إثرَ نجاحه في مباراة للدُّخول أمام لجنة فاحصة. كان قوام اللَّجنة كِبارٌ من ناس الأدب واللُّغة والفكر والثَّقافة والموسيقى في ذلك الزَّمن؛ هُم: عمر فاخوري وعمر الزِّعنِّي وميشال خيَّاط ومحيي الدِّين سلام وغنطوس الرَّامي والياس أبو شبكة. وكان أن باشر جدايل العمل الإذاعي، بعد دقائق من إجراء المقابلة وموافقة اللَّجنة الفاحصة على نجاحه في المباراة. أمَّا مباشرته هذه، فكانت عبر قراءة ثلاث نشرات إخباريَّة وتقديم مواد الرَّبط الإذاعي للبرنامج العام، فضلاً عن إجراء مقابلة مع وفد فرنسي زائر وإذاعة حديث مباشر معه باللغة الفرنسية وتعريب هذا الحديثِ مباشرةً وإعادة بثه بالعربيَّة.
رئيس المركز الثقافي الإسلامي
* نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية