إلتقيا دون أي تمهيد ، إبن الشيخ وابن صاحب الحانة…بقلم الشاعر علي سلمان
إلتقيا دون أي تمهيد ، إبن الشيخ وابن صاحب الحانة ، وبعد أن تعارفا وابتعدا كثيرًا في الكلام كان بينهما هذا الحوار.
_ هل يصلّي أبوك؟
_ لا، لا أعتقد ذلك ، لكن أسمعه في الليل أحيانًا يبكي وهو يتمتم محدقًا في البعيد ، مبعدًا يديه كمجذافين نحو السماء.
وعندما أسأله عند الصباح مستوضحاَ يقول متهربًا: فقط كنت أتحدث مع نفسي وما انتبهت فرفعت صوتي قليلاً …
_ وأنت هل حصل أن رأيت أباك يشرب الخمر؟
_ لا أبداً أعوذ بالله، لكن أحياناً يقول أشياءً لا عقل يقدر على تفكيكها أو قبولها ، وحين أسأله عنها مستفهماً يقول: نحن أصغر من أن نغوص في ذاك العالم …
لحظات صمت مسكونة بالدهشة مرت بينهما وقال ابن الشيخ مستنفرًا جميع حواسه وكأنه يستعد لدخول غابة: حدثني عن الحانة
ومن دون أي تفكير أو تردد قال له ابن صاحب الحانة بصوت دافئ هادئ مسكون بالجرأة الناقصة:
ذاك العالم أكثر ما يتكاثر فيه هو الصمت،
ألصمت ثم الصمت ثم الصمت …
حيث الكؤوس وحدها تحكي هناك.
في الحانة تكون الطاولة الصغيرة هي المساحة الأوسع للجالس إليها …
ألكأس يليه كأس يليه كأس يليهما ندم غير مكتمل أحياناً ، ويلي كل ذلك ضياع …
فترى الجميع وكأنهم يبحثون عن شيء واحد، ألجميع وأعني الجميع، لكن إن سألتهم لا أحد يعرف …
هناك كل شخص لديه نقطة محددة ينظر إليها ومنها يبعد إلى حيث لا أحد يعرف، ومن جديد اللاّ معرفة هي التي تحكم وتسود هناك …!
وهكذا تتوالى الأحداث والأيام في الحانة بتقارب وتشابه غير مملَّين …
وفيما ابن صاحب الحانة يحكي نظر إلى ابن الشيخ الغارق في انسجامه وقال له شاهرًا قلبه:
وأنت حدثني عن الجامع ماذا يحصل هناك في بيت الله ، حدثني عن المصلين وعن الله ، وهل يأتي الله كل يوم ليكون بينكم هناك؟
نظر إليه ابن الشيخ ولا يزال صدى صوت الكؤوس يلمع في رأسه وقال: في الجامع يقف الجميع خاشعين متراصّين سواسية كأسنان المشط، بعضهم يجيء مسالمًا دون أن يمشي فكرة واحدة، وبعضهم يبدو كمن يخاف الغابة فاختار الطريق الآمن، وكثيرون هم الذين يسجدون حباً ومعرفةً وإيماناً …
أبي في المقدمة وأنا خلفه مباشرة ، وبعد نظرة او نظرتين منه للوراء وكأنه يتأكد من اكتمال النصاب يبدأ بالصلاة، ولا تسمع تلك اللحظة صوت الإبرة إن رميتها …
وماذا عن الله قاطعه ابن صاحب الحانة؟
هنا يخفض صوته قليلاً ابن الشيخ وكأنه يكشف سرًا ويقول : بعد كل صلاة يخطب والدي بالناس واعظًا معلمًا مثقفًا، وفي أكثر الأحيان أسمعه يقول لهم، ألله ليس هنا دائمًا لمن يريد أن يعرف ، إنه هناك قرب دمعة يتيم ، بين نبضتي قلب محتاج ، في بيت أرملة تعجن يديها كل صباح ، مساءً تطهو دمعها المالح لأطفالها الجياع.
وبصراحة(يتابع ابن الشيخ) أنا ما كنت أشبع من هذا الكلام ، فأثناء كل صلاة كنت أرفع رأسي قليلاً دون الآخرين لأرى الله ولا أراه ، وأحيانًا كنت ألمح أحد المصلين وبالصدفة يتسلل ويخرج حاملا حذاءه مرتدياً حذاء سواه …
فأخبر أبي بما رأيت ، ليحل النزاع بالذهاب حافيًا إلى البيت .
وتوالت اللقاءات بينهما
كثرت الأحاديث
تحلّلت وتحددت الأفكار …
وحين كبرا صار ابن الشيخ ينتظر نضوج الليل ، ليذهب إلى الحانة بقلب سليم ، يبحث عن نفسه وأشياء كثيرة هناك …
وابن الحانة يجمع ما تيسّر من المال ، ويذهب قبل أن يفتح النهار قلبه للشمس ، يتقاسم مع اليتيم وحدته ، يدق باب المحتاج بأمل ، يفتح شرفة على قلق أرملة ، ويلقي نظرة على الله ويعود ممتلئاً بما لا يعرف …!