أدب وفن

عارِف الحَبَّال الرَّائد الرِّياضي ومقدِّم أول برامج الرياضة الإذاعيَّة في لبنان (1)

الدكتور وجيه فانوس

عارف الحبّال

  كان جهاز «الرَّاديو»، أو ما أُسْمِيَ بالعربيَّة الفصحى، «المِذياع»، من الأمور التي طالما كانت تثيرُ مداركي في زمن طفولتي، في بيروت؛ مطلع خمسينات القرن العشرين. تربَّع هذا الجهاز، سعيداً بفرادته في وجداني وعقلي، على عرشٍ للثقافة العامَّة، لم ينازعه عليها لا «تلفزيون» ولا «انترنت» ولا أيِّ واحدٍ مِمَّا يعنى به أطفال اليوم من وسائط للثَّقافة ومفاتيح للمعرفة؛ فما كان لأيٍّ من هذه المفاتيح أو تلك الوسائط أن يكون معتمداً في ذلك الزَّمن في بلدنا، بل لعلَّه لم يكن لغالبية القوم أن يحلموا بوجوده، أو يدركوا كنه هذا الوجود.


كنتُ من مدمني الاستماع إلى «الرَّاديو»؛ أتنقَّل، عبر مؤشِّر محطَّاته، من «دار الإذاعة اللبنانيَّةِ في بيروت»، إلى «محطَّة الشَّرق الأدنى»، ومن ثمَّ إلى «إذاعة القاهرة»؛ وكان لكل واحدة من هذه المحطات الإذاعيَّة نكهة خاصَّة بها، في ما كانت تبثه من برامج تمثيلية وثقافيَّةٍ وموسيقى وأغانٍ. كنتُ أتملَّى من كل ما أسمعه عبر هذه المحطَّات؛ ثمَّ غابت عنها، بعد سنة 1956 «إذاعة الشرق الأدنى»، وبتُّ أحفل بإذاعة «صوت العرب من القاهرة»، وما كنا نتعارف على تسميته بإذاعة «هنا لندن»، وهي إذاعة البرامج العربية لمحطة BBC الإنكليزيَّة العالميَّة.
من أجمل ما في حنايا ذاكرتي، حتَّى اليوم، أي بعد مرور أكثر من ستة عقود من الزَّمن على ذلك العهد، أنَّي كنتُ شديد الاندهاش والإعجاب معاً ببرنامج للتمارين الرِّياضيَّة، تبثٌّه «دار الإذاعةُ اللبنانيَّة من بيروت»، وهكذا كان اسمها عهد ذاك. مصدر الاندهاش، أنني ما تعوّدت التمارين الرياضية، أو ما يشاكلها، إلاَّ أن تكون ضمن جماعة صاخبةٍ من الأولاد، نقوم بها في ملعب المدرسة أو في أحدى الفسحات القريبة من منزلنا، في منطقة برج أبي حيدر؛ فكيف بي أقوم بها عبر ما يبثُّه «الرَّاديو»؟!! أمَّا الإعجاب، فكان في زهوي الطُّفوليّ، بأنَّ من يُدير هذه التمارين، عبر ما يبثه «الرَّاديو»، كان أستاذ الرياضة في مدرستي، وهو الأستاذ عارف الحبَّال.
الأستاذ عارف الحبَّال، أوَّل من قدَّم برنامجاً إذاعيَّاً للتمارين الرياضيَّة في لبنان. كانت العائلة تتجمَّع عند الساعة السادسة والنصف صباحاً، نتحلَّق حول جهاز «الرَّاديو»، وننتظر بلهفة سماع، إما صوت الأستاذ شفيق جدايل، كبير مذيعي الإذاعة اللبنانية عهد ذاك، أو صوت الأستاذ غنطوس الرَّامي، وهو يعلن بِدء برنامج الرياضة هذا.
لم نكن لِنُشاهِد بأعيننا ما ينبغي القيام به، ههنا، من حركات وقفزات وانحناءات؛ بيد أنَّ الأستاذ عارف الحبَّال، كان قادراً على جعلنا نرى، بآذاننا، جميع ما يتوجَّب رؤيته. أذكرُ، وكأنني ما زلت أرى بأذنيَّ، صوت الأستاذ عارف، وهو يرشدني، بتعابيره الراسخة في وجداني، إلى كيف يكون «مدُّ اليدين» و«فَتْحُ الصَّدر» و«شدّ الذِّراعينِ إلى أقصى الكتفين» و«الانحناء المستقيم مع لمس أطراف القدمين»، و«القفز على القدم»، وسوى ذلك. كان الأستاذ الحبَّالُ يقول تعليمات تمارينه بصوته، وكنتُ أتجاوبُ معها بكلِّ ما كنتُ أمتلكه من طاقةٍ على الحركة والقفز والانحناء والالتفاف ذات اليمين وذات اليسار.
عارف الحبَّال، ابن بيروت؛ أبصر النٌّور فيها سنة 1902، وتلقَّى دروسه الابتدائيَّة، زميلاً للعلّامة الدكتور عمر فرُّوخ، في مدرسة «سكزنجي غونة» أو ما عرف بإسم «المدرسة النموذجية الثامنة»، وكان موقعها جنوب «المكتب السلطاني»، «بين منطقتي «الباشورة» و«حوض الولاية» اليوم»، كما يذكر «فرُّوخ» في الصَّفحة التَّاسعة من كتابه «غبار السِّنين»، الصَّادر عن «دار الأندلس» في بيروت، سنة 1985. ولقد برز، عارف الحبَّال، منذ صباه، واحداً من الشَّخصيَّات الرِّياضيَّة التي احتلَّت مكانة مرموقة لها في عالم الرِّياضة في لبنان، كما في العالم العربي.
كلّف الأستاذ محيي الدِّين علماوي، مؤسس «فوج أبي عبيدة الجراح» الكشفي، عارف الحبَّال، تدريب أفراد هذا الفوج، سنة 1937؛ كما يشير إلى هذا الدكتور عصام شبارو، في كتابه «عين المريسة: صفحة مشرقة من تاريخ بيروت ودور وطني قومي لا يموت»؛ الصَّادر عن منشورات «مصباح الفكر»، في بيروت، 2000؛ والجدير ذكره، ههنا، أنَّ هذا الفوج الكشفي، كان النّواة التي انبثقت منها حركة «النجِّادة» الكشفيَّة، والتي تحوَّلت، من ثمَّ، من طابعها الكشفي، إلى «حزب النجَّادة» السِّياسي؛ والنجادة، أصلاً، مصطلح كشفيٌّ، مستقى من قولِ العربِ «َنجُدَ ونَجْدةً، ونَجادة»، فهو «رجلٌ نَجُدٌ»، أي ماضٍ فيما لا يستطيعه سواه.
قضت انظمة النوادي الرياضيَّة، في بعضِ مراحلِ الانتداب الفرنسي على لبنان، أن يكون رئيس النادي وأمين صندوقه وأمين سره من الفرنسيين المقيمين في المدينة؛ الأمر الذي دفع بعض الشباب الوطني إلى تأسيس نادي رياضيٍّ يقابل نادي «الاتِّحاد الرِّياضي»، الذي كان تحت سيطرة الفرنسيين. ونجح هؤلاء الشباب، سنة 1926، في الحصول على رخصة بإسم «نادي النهضة»؛ وكان من مؤسسيه «سيف الدِّين وعادل صيداني» و«جورج كرم» و«جاك شهاب» و«أدمون ربيز»؛ كما انضم إليهم، لاحقاً، عدد كبير من الطلاَّب. وكان لعارف الحبَّال، أن يساهم، في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، مع ثلَّةٍ من شبَّاب بيروت، منهم «عارف الحبّال» و«رشاد المالكي» و«سليم فرحات» و«أحمد القاروط» و«محمد زيدان» و«شريف دمج» و«صافي طه»، وفاقاً لما يرد على الموقع الإلكتروني لـ «الإتحاد اللبناني للمصارعة»، في أنشاء قاعات للتدريب على المصارعة. وقد تمكَّن «عارف الحبال»، سنة 1935، مع «محمود القيسي» و«محمد الكعكي»، من تأسيس أوَّل نادٍ وطنيٍّ للمصارعة في بيروت، بإسم «نادي الشَّبيبة الرياضي»؛ وكان أن قدَّمت «جمعيّة الشَّبيبة الإسلاميَّة» مقرَّاً لهذا النَّادي، عبارة عن قاعة وغرفتين، على سطوح محلات تجاريّة كانت تقع في «سوق الخضار بالجملة»، خلف مبنى سينما «ريفولي» في بيروت.
عُقِدَ، مطلع سنة 1937، في منزل الأستاذ «ناصيف مجدلاني»، في منطقة «المزرعة» في «بيروت»، اجتماعٌ، ضمَّ مجموعةً من المهتمِّين بالشَّأن الرياضيِّ، تحضيراً للبدءِ بالاستعدادات لتأليف اتِّحاد للمصارعة ورفع الأثقال. ولقد كلَّفَ المجتمعون كلاًّ «عارف الحبال» و«مصطفى تمراوي»، مهمَّة وضع مشروع نظام داخلي لهذا الاتحاد. وعقد، تالياً، اجتماع يوم الأحد، الواقع فيه 3 كانون الأول سنة 1937، في منزل «محمَّد الكعكي» في بيروت، حيث جرى إعلان الموافقة العامَّة على مشروع النَّظام الدَّاخلي، المقدَّم من الحبَّال والكعكي؛ وتقرر، من ثمَّ، ارسال نسخ عنه، لإطلاعِ الجمعيات المعنية بالمصارعة ورفع الأثقال. تلا هذا النَّشاط، اجتماع عام، حصلَ يوم الجمعة، الواقع فيه 29 كانون الأول 1937؛ وجرت فيه انتخابات أوَّل هيئة إداريَّة لإتِّحاد المصارعة ورفع الأثقال، فاز فيها «محمَّد الكعكي» بالرئاسة، و«ناصيف مجدلاني» بنيابة الرئاسة، كما حاز «عارف الحبَّال» مهام أمين السِّر، و«مصطفى تمراوي» مهام أمانة الصندوق، و«مصباح الحلبي» و«محمد العجوز» و«محمد مكوك» صفة مستشارين.

—————
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي

*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى