أدب وفن

مُرَتِّل المُوبِقات…بقلم الروائي محمد إقبال حرب

تململ في الفراش بين همومه التي راكمها عصر الانهيارات الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وبين وباء نظريات المحللين السياسيين والاقتصاديين المتضاربة. وباء أصابه بانهيار انسانيته بمقتل فأضحى متوترًا حد الجنون. فكل ما يُسمع ويُقرأ متناقض متضارب، ممزوج بروائح فتيل متفجرة يرافقه هسيس كارثة غير معهود. كوابيسه لم تحدد نوعية المستقبل القاتم ولم تركن إلى أسباب مقنعة. فأنصار الحكم وأربابه، كما عسس الدول الطامعة ومأجوريهم يبثون سمومهم المتضاربة في عقول المواطنين الذين أصابهم تلبك فكري يشبه مرض القولون العصبي، الذي يُبقي صاحبه في المرحاض يعتصر ألما وقذارة.

انتفض في سريره أرقًا، رفس الغطاء القطني، ورمى الوسادة بعنف ناحية الحائط، فارتطمت ببعض المقتنيات الزجاجية محدثة جلبة أفرزت سيمفونية انكسار واكب تراتيل بؤسه. أخذ يصرخ بصوت عالٍ غير مبالٍ بما ومن حوله: أريد أن أرى البشر على حقيقتهم، بل أريد أن أعرف حقيقة الوجود. من يقدر أن يبوح؟ من يستطيع؟

خرج من داره هربًا من كوابيسه. ما أن حطت قدمه على الرصيف وانفتحت أبواب نظره حتى رأى الشارع مزدحمًا بأعداد وفيرة من الحمير، تزاحمهم قطعان الأغنام. استغرب وجود هذه الحيوانات في وسط المدينة الراقي، التي لم يزرها أحد من ذوات الأربع لعقود خلت. أخذ يجول بناظريه بحثًا عن البشر. لمح بعضهم القليل، وهم بكامل أناقتهم. أسرع يكلمهم ليعلم حقيقة ما يحصل. لكنه كلما اقترب من أحدهم حدجه بنظرة قاسية تنم عن استعلاء وسخرية. وبينما هو كذلك مر على مقربة منه ثور هائج، فنطح بضع حمير وغرز قرنيه في نعجة. لم تخف باقي الحيوانات، ولم يبدِ أي بشري ردة فعل قط. أحاطه الذهول، جحظت عيناه وهو يرى جماعة البشر يقتربون من الثور بهدوء، يكلمونه كبشري منهم حتى هدأ وعاد أدراجه متبخترًا.

ما هذا؟ أين أنا؟ عالم دخلت عالم ساحر مدينة ويزرد أوف أوز؟ أم انتقلت إلى بعد آخر بعد تحطم مرآة جدتي؟
نظر إلى السماء مرددًا: سألتك عن الحقيقة، لا الجنون!!!

لم يأته الرد رغم ترديده السؤال على من في السماء. لم يستطع تحمل هذا الجنون فأمسك بيد بشري وقال: من أنت؟ من أنتم؟ بل ما هذه الحيوانات؟ أرجوك أخبرني، أنا ضائع، تائه.

ابعد الرجل يد، ونفخ بوجهه كمن يبعد ذبابة بلؤم شديد وقال: هؤلاء الذين تظنهم حيوانات ما هم إلا بشر، تخلوا عن ملابس المهرجين البشرية فبانت صورة نفوسهم الحقيقية. وها أنت ترى أشكالهم كما يجدر بهم.

ماذا؟ هل جننت يا هذا؟ أيمكن لبشر أن يكون حيوانًا؟

لن أجيبك، بل أنظر إلى نفسك بعدما طلبت معرفة الحقيقة. أنت واحد منهم.

ارتبك لوهلة وهو يلاحظ كبر اذنيه. شعر بذيله وأدرك بأنه يقف على أربع. لم يقوَ على احتمال الحقيقة فبرك كالجمل وكاد أن ينهق.
ما هذا السحر؟ من هو الساحر الذي مسخنا حميرًا ونعاجًا وثيرانًا؟ أأنتم من فعلتم هذا فميزتم أنفسكم بالإبقاء على كلكم البشري؟

قال الرجل باشمئزاز واضح: ألم تطلب الحقيقة؟ هذه هي حقيقة معظم البشر. بعضهم نعاج أمام الثور الكبير يقدمون فلذات أكبادهم اضحية لرضاه وثمنًا لعلفهم. والبعض الآخر حمير يتبعون أوامره دون تفكير.

أيها المنافق الكاذب، ألا ترى في بني البشر شريفًا.

بلى، لكن من اتخذ الفكر ديدنه والإنسانية عهده سلَّطنا عليه أبناء بجدته من مزرعة السلطان، فيتكفلوا بتحويله إلى علف يزكي أمسياتهم في حضرة الطاغية.

!وأنت؟ تتكلم وكأنك سيد المكان والزمان

أنا الفساد المتحول المتنقل عبر العصور. أنا الوباء الذي يقتات على الإنسانية. أنا عصارة الفساد، أنا الحاكم الفعلي للبلاد. أنا صديق الطغاة، مرتِّل الموبقات. أنا الحذاء الطاغي الذي ينتعله الحاكم ليدوس به على مشاعر البشر. أنا خادم مصاصي الدماء، قاتل الشرفاء، صديق النعاج والحمير حتى يرضى الثور الكبير. أصادق الثور الأكبر حتى أروضه، والسلطان حتى أفسده ورجل الدين حتى أشكِّكه. أنا الفساد الطاغي، يباركني أساطين الناسوت فأكون ركيزة حكمهم. ويتخذني رجال الدين أيقونة وقارهم فتبجلني النعاج ويتبعني الحمير ويطلب مشورتي الثور الكبير.

!لكنك بشري الشكل
جبنك الذي ورثت من أبويك، وحيوانيتك التي اخترتها طريقًا لمذلتك أمام الثور الأكبر جعلتك تراني سيدًا بشريًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى