الفارابي حاكما و لو كره الغرب
الفارابي حاكمًا ولو كره الغرب *
د. محمد حسين بزي
ما بين الدهشة والشعر يحضر سماحة الشيخ فضل مخدر، ويحضر معه الفارابي حاكمًا؛ أو محكومًا عليه بالفلسفة والعشق لا فرق …
كما لا فرق بين تقلّب الكواكب في كبد السماء وبين منارات عاملة ..
لن أقول لك يا صاحبي أنّى لك هذا ..!؟
لأنّ في وجداني لا فرق بين بابل والبابلية.. لا فرق يذكر،، فنشيد الماء البابلي لم يكن أصله من أرسِطو كما علمونا، إلّا أنّ نشيد الماء العاملي الجاري يمرّ بالبابلية دون ريب.
وأيضًا، من قال إنّ بابل بالشعر والفلسفة أولى من عاملة ..؟!
فلا تثريب عليك أيها الشيخ امضِ على بركة الله، إنك من البابلية وهذا أحجى، فشقاوة الملح في البحر لا تُفسد درره البِكر، بل تستفز الغطّاس الماهر ساعة شعر أو فلسفة.. لا فرق أيضًا.
فيا صاحبي ردّني إليك الآن مدهوشًا كي تستريح آفاق الفلسفة عن شفقها الإغريقي في يقظة بابلية مستحبة..
وأمّا عن الكتاب (الحاكم عند الفارابي) فأقول:
رغم محبتي ورغبتي، إلّا أنّ العنوان استفز لواعج كانت غائرة في الصدر منذ أيام الدراسة الجامعية، وكانت معمورة بالألم رغم الجدل النضير في أبي نصر.
ببساطة، أنا أحبّ هذا الفيلسوف.. وأريده أن يأتي الآن، ليسمع ويشاهد نكران الجميل للعلم وللمُعلِّم من غرب تغرّب عن الوفاء، وأتقن اغتيال الثقافة والحضارة بشمولية متوحشة إلّا عن سواه.. لدرجة أنّ مثقفينا ما برحوا يبغبغون كلامه، ويعيشون “فرحة الأهبل” بتعبير المثل المصري.
لقد انماز المُعلِّم الثاني (الفارابي) عن غيره من الفلاسفة في المصالحات الفكرية الكبرى التي عقدها بين الفلسفة وتعاليم الإسلام، والتي تجلّت في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”؛ وقد سحبها إلى المقاربات حينًا، وأحياناً إلى المطابقات التي وفّرها بين العقل الفعّال وملك الوحي والفيلسوف الملك من جهة، وبين السعادة القصوى والجنّة ومكافآت العمل وقوانين الشريعة، ومستبدلًا القديم والحادث بـ واجب الوجود وممكن الوجود من جهة أخرى. وإذا كان هذا يدل على عظمة شخصيته العلمية في هضمه للفلسفة اليونانية وما سبقها من مرحلة النظر الإنساني، ولتعاليم الإسلام الحنيف؛ فإنّه في الوقت نفسه يؤشر على حجم الهم الإنساني الذي كان يسكن هذا الفيلسوف الحكيم. وحتى نبتعد عن الحشو والاطناب يمكنني اختصار فلسفته بجملة مبثوثة في مصنفاته مفادها: إنّ المعارف والعلوم التي لا تكون في خدمة الإنسان فلا قيمة لها، بل كأنّها لم تكن. وهذه خلاصة مفتاحية شاد عليها الفارابي مصالحاته ومقارباته.
والتهمة التي طالما رُمي بها هذا الحكيم الإلهي من بعض متفلسفي الغرب، وهي تأثّره في مدينته الفاضلة بمحاورة “السياسة” لأفلاطون، والمعروفة خطأً بـ “الجمهورية” لم تكن صحيحة، وإنْ كان ثمة تطابق في أفكارهمـا الفلسفية، فهناك تناقض في الكثير منهما، مثل اشتراط الفارابي في رئيس المدينة الفاضلة أن يكون فيلسوفًا وعلى اتصال بالعقـل الفعّال، مقابل اشتراط أفلاطون أن يكون رئيس الجمهورية فيلسوفًا فقط. كذلك تصوّر الفارابي لرئيس المدينة الفاضلة أن يكون قادرًا على الولوج في العالم الروحي والاندماج معه، للوصول بأهل المدينة إلى السعادة الكاملة التي لا تدوم إلّا بدوام الاتصال بالعقل الفعّال سواء عن طريق التصـوّر العقلي أو عن طريق التخيّل القائمين علـى التأمّل والإلهام، في مقابل دعوة أفلاطون إلى ضرورة أن يهبط الفيلسوف من تأملاته للمعقولات المجرّدة “المُثل” إلى عالم الشؤون السياسية والمحسوسات. ومثل هذه التناقضات (الجوهرية) كفيلة لمن له حظ من الفلسفة أن يعرف مدى الهوّة المؤسِّسة بين الرجلين، عدا أنّ الفارابي ينكر على أفلاطون أمورًا رئيسية مثل شيوعية النساء والأولاد والثروة، لتناقضها مع الإسلام.
ولو أنصف “الغرب” الفارابي لاعترف أنّه المصدر الأوّل والأساسي لإعادة انتاج الفلسفة اليونانية القديمة في قالبها المشهود اليوم، ولم تكن محاولته في “الجمع بين رأيي الحكيمين –أفلاطون و أرسطو-” آخر المطاف.
ورغم مرور أحد عشر قرنًا على وفاته، لا تزال فلسفة الفارابي حاضرة وخصبة، بل ومهيمنة على الفلسفة السياسية للإسلام. ولولا ذلك لما تناولها سماحة الشيخ فضل مخدّر وغيره من مئات الباحثين بالدراسة الموضوعية التي وسمت هذا الكتاب موضوع ندوتنا.
- ألقيت هذه الكلمة في ندوة وحفل توقيع كتاب الحاكم عند الفارابي بين الإسلام والفلسفة لمؤلفه سماحة الشيخ فضل مخدر، والصادر عن دار الأمير وذلك بتاريخ 26/10/2015 في قصر الأونيسكو – بيروت. والتي شارك فيها كلّ من رئيس جمعية المعارف الإسلامية الشيخ الدكتور أكرم بركات، ومدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند الأب الدكتور جورج مسّوح، والمدير الأسبق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الأستاذ الدكتور محمد شيّا .
تحليل قيم يتسم بالدقة والدفء كعادة د.محمد حسين بزي وفقه الله وسدده.