أدب وفن

رواية “آنغيلا”: سيرة مدينتين

د.طارق عبود */ المصدر / الميادين نت

بيروت وسردية الحرب الأهلية
تحكي الرواية حكاية كثير من اللبنانيين عاشوا بين فترتين ومرحلتين، ما قبل الحرب، وفي أثنائها، وكيف تغيّرت حياتهم، وتصرفاتهم،

وسلوكياتهم، مساكنهم، أعمالهم، وعلاقاتهم الاجتماعية. يغوص كمال ديب في رواية “آنغيلا” في ذاكرة اللبنانيين، ما بعد الاستقلال، فيروي حكاية يومياتهم، وليالي بيروت الساحرة التي كان يستفيد منها الفقراء أيضاً.

يقول الكاتب في مقدمة الكتاب إنّ روايته هذه هي نتاج عشرات المقابلات والأحاديث إلى شخصيات حقيقية من مهاجرين عرب وكرد، مسيحيين ومسلمين، يعيشون في ألمانيا. ويقول إنه استعان بمراجع علمية للتأكد من الأحداث التاريخية التي أوردها في الحكاية. ويضيف أنه لخّص مجمل ما رواه له هؤلاء الأشخاص بشخصية وهمية واحدة، هي يوسف ناصر، القادم من قرية تحمل اسماً وهمياً وتقع في الشريط الحدودي المحتل من جنوب لبنان، أطلق عليها الكاتب اسم “بيت الهاني” تيمّناً بقرية Bethany أو بيت عنيا قرب القدس المحتلة، حيث اجترح المسيح معجزة إحياء لَعازَر Lazarus. ص9-10

 تروي رواية آنغيلا: شرق بيروت – غرب برلين، للكاتب كمال ديب، الصادرة عن دار “النهار” 2023، غُربةً منسيةً في الأدب الروائي العربي، وهي هجرة عائلات بأكملها من لبنان إلى ألمانيا منذ سنوات الحرب اللبنانية في السبعينيات من القرن الماضي، وتنطلق مما جرى للشخصية الرئيسة يوسف ناصر، وحبيبته الألمانية آنغيلا. فتتبّع الراوي نشأته وهو صغير السن من قريته الحدودية الجنوبية، ثم نزوحه مع أسرته إلى شرق بيروت، قبل الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ثم إلى غربها في بدايات الحرب، وصولًا إلى هجرته إلى ألمانيا وحياته فيها، ولقائه بـ”آنغيلا” الألمانية في غرب برلين في مرحلة شبابه الأولى. وفي ألمانيا ساعدته آنغيلا على الاندماج في مجتمعها، واختلط بدوره بلبنانيين وفلسطينيين وسوريين وعراقيين، قبل أن يعود رفقتها إلى بيروت في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 ليواجها مصيرهما.
.

الواقعان السياسي والاجتماعي في الجنوب اللبناني 

 يبدأ الراوي بسرد حكاية يوسف ناصر منذ خمسينيات القرن الماضي، معرّجاً على الواقع الاجتماعي في جنوب لبنان، والعادات الاجتماعية والتقاليد الدينية والسياسية، ومنها إحياء مراسم عاشوراء في النبطية وغيرها. ويجهد الكاتب في نقل الأحداث والوقائع بكثير من التفاصيل في تلك الفترة، وهي مقدّمة لما ستكون عليه حال الشخصية الرئيسة في الصفحات القادمة. 

بيروت وسردية الحرب الأهلية

 تحكي الرواية حكاية كثير من اللبنانيين عاشوا بين فترتين ومرحلتين، ما قبل الحرب، وفي أثنائها، وكيف تغيّرت حياتهم، وتصرفاتهم، وسلوكياتهم، مساكنهم، أعمالهم، وعلاقاتهم الاجتماعية. يغوص كمال ديب في رواية “آنغيلا” في ذاكرة اللبنانيين، ما بعد الاستقلال، فيروي حكاية يومياتهم، وليالي بيروت الساحرة التي كان يستفيد منها الفقراء أيضاً. 

تنقسم الرواية إلى جزأين: الأول يحكي عن مرحلة من تاريخ لبنان، وكيف كانت العائلات اللبنانية تهاجر من القرى البعيدة إلى بيروت، وكيف تعايش الفقراء من البيئات المختلفة مع بعضهم البعض، الأرمن والكرد، مع نظرائهم اللبنانيين المهمّشين، وصولًا إلى السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، وكيف أُجبرت عائلات منهم على الانتقال من شرق بيروت في النبعة، وفي تل الزعتر إلى غرب العاصمة، بسبب القتال، ومن جراء أعمال القنص والقتل والخطف والتهجير. تصلح الرواية لتشكّل تأريخاً معيناً لمشاهد سريعة من مرحلتين مرّ بهما لبنان، وبيروت بشكل خاص.

حاول كمال ديب أن يفتّش عن حوادث بسيطة، ولكنّها حملت بين سطورها سلوكيات إنسانية، حتى في أجواء الخطف والقتل والدم التي كانت مسيطرة على الجميع. فيروي بعض القصص، إحداها بين المسؤول الكتائبي سعيد، والآخر الشيوعي جوزيف، وهما من القرية نفسها في كسروان: يقول سعيد لجوزيف: “انظر يا جوزيف، نحن من القرية نفسها، ووالدك يعرف والدي. يجب ألا تحصل معركة هنا اليوم. وكل من معك هم أبناء عائلات لبنانية، وأنت تعرفني لا أميّز بين مسيحي ومسلم، ويصعب عليّ أن يصيبهم أي سوء”. ص135

يقارب الجزء الثاني من الرواية هجرة يوسف ناصر إلى ألمانيا، بعد اختطافه على يد إحدى الفصائل المسلحة لأشهر في بيروت، ويأسه مما وصل إليه البلد. فينتقل الراوي إلى الحديث عن رحلة يوسف إلى ألمانيا مهاجراً، وكيف صادف بعض الأصدقاء اللبنانيين هناك، وكيف التقى بالفتاة الألمانية “آنغيلا” التي أعجبها، وأحبّته، فساعدته بكل ما استطاعت، ووقفت إلى جانبه في رحلة العذاب التي مرّ بها في سنواته الأولى في برلين. 

يحكي الراوي، وهو راوٍ غير مشارك في الحدث، يروي تفاصيل الحكاية، وهو العارف بنفسيات الشخصيات، حكاية اللبنانيين والعرب في ألمانيا، وحكاية العائلات التي استقرت هناك، ليصل إلى الحدث الأكثر أهمية، وهو زيارة آنغيلا برفقة يوسف ناصر إلى لبنان للتعرف إلى عائلته، وإلى لبنان، وتتزامن الرحلة مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والتحاق يوسف وأنغيلا بالمنظمات الأهلية التي عملت على مساعدة الناس، ومن ثم عودتهما لاحقاً إلى ألمانيا

زمن الرواية وشخصياتها وأمكنتها

يمتد زمن الوقائع منذ خمسينيات القرن الماضي حتى العام 2020 بما فيها من أحداث حقيقية ومتخيّلة. 

ويتوزع المكان على مكانيْن رئيسيْن، لبنان وألمانيا، ولا سيما شرق بيروت وغربها، وغرب برلين، وحملت الرواية اسمَي هذين المكانين، وتتغيّر نظرة الشخصية الرئيسة يوسف ناصر إلى المكانين، بين مكان حميم، وآخر معادٍ، وتتناوب المدينتين على ذلك في سياق الحكي. 

توزّعت الشخصيات الكثيرة في الحكاية بين المكانين، ولكن القاسم المشترك بينها كان الشخصية الرئيسة في الرواية يوسف ناصر الذي تمحورت حوله أحداث الحكاية كلّها. 

 أسلوب كمال ديب جميل وسهل، فهو لا يتكلّف في صوغ الجملة، بل يجهد في التركيز على الفكرة، ويجعل الكتابة سهلةً ومغرية، والقراءة متعة للجميع، ويركّز على إحاطة الحدث بكل تفاصيله الزمكانية، والنفسية، ووضع خلفية اجتماعية للمشهد، في أسلوب خالٍ من التعقيد والتكلّف، يجعل المتلقي مشدوداً إلى متابعة الحكاية ومتشوّقاً إلى معرفة ما ستؤول إليه الأحداث. 

 لا يُقحم كمال ديب، وهو المؤرخ العارف بتاريخ لبنان جيداً وتاريخ المنطقة، رأيه السياسي في حدث معقّد جداً، وهو الحرب الأهلية اللبنانية، وحرب الطوائف، ولكنه يجهد أن يكون سرده للأحداث بكثير من الحيادية، ولكنّ في اختياره لقرية “بيت الهاني” تيمّناً بقرية Bethany أو بيت عنيا قرب القدس المحتلة، دلالة أنّ فلسطين على الرغم من احتلالها واغتصابها من جانب الصهاينة، بقيت معجزةً لم يتمكن المحتلون من تطويعها، حيث اجترح المسيح معجزة إحياء لَعازر، وستجترح فلسطين معجزة بقائها في قلوب الأحرار على الرغم من مرور سبعة عقود ونيّف على احتلالها.

رواية “آنغيلا”، رواية جميلة وسلسة، تُقرأ بشغف كبير، وتقارب أحداثاً وتاريخاً حفر عميقاً في ذاكرة اللبنانيين وماضيهم وحاضرهم، وما زالت تأثيراته قائمة في مستقبل كل من عايش الحرب، كل من ترك البلد مهاجراً في أرجاء المعمورة.


*كاتب و باحث في السياسات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى