أدب وفن

الرَّائدُ العصاميُّ الشَّيخ أحمد عَبَّاس الأزهريّ – 2 أَزْمَةٌ فِي الاسْكَنْدَرِيَّة

سعد الله حلابو

حكايةٌ عن مرحلةٍ وأجيالٍ وليست أبداً حكايةً عن شخصٍ

كانت «الاسكندريَّة»، زَمَنَ سَفَرِ «أحمد عبَّاس سُليمان» إِلَيْها، مُغادِراً إلى مدينتِهِ بيروت، مَرْكَزَ تَسْويقٍ ماليٍّ شديدِ الأهميَّة في المِنْطَقَةِ، وخاصَّة للأوروبيين الذين ساهمَ كثيرٌ مِنْهُم في بعثِ حَيويَّةِ النَّشاطاتِ التِّجارِيَّةِ والماليَّة للأسواق ونشرِها. وكانَ بعضُ أهلِ «بلاد الشَّام»، الذين يُقِيمونَ في المدينةِ، يساهِمونَ بشطرٍ لا بأسَ بهِ مِنْ تلكَ النَّشاطات؛ مِمَّا كان يُساهِمُ في تعزيز النَّشاط التجاري وحركة السَّفر بين مِصر وبلاد الشَّام.
كان يقيم في الاسكندريّة، عهدذاك، رجلُ أعمال مشهورٍ، يُقالُ أنَّه من أصولٍ ترتبطُ بمدينةِ «حلب»، في بلاد الشَّام، اسمه «سَعْد الله حَلابُو»؛ وسيكون لهذا الرَّجُل أثرٌ بَيِّنٌ في تَصْويِبِ مَسيرةِ حَياةِ «أَحمَد عَبَّاس سُلَيمان»؛ الطَّالبُ الأزهريِّ الذي اِضْطُرّهُ ضِيِقُ الحالِ المادِيِّ إلى الانْكِفاءِ المُرِّ عَن تَحصِيلِ عُلومِهِ مِن «الأزهرِ» في «القاهِرةِ». كانَ «سعد الله حلابو»، وقد وَرَدَ اسمُهُ، في ما حَفِظه الشَّيخ «محمَّد رشيد رضا» مِن كلامِ الأُستاذ «عبد الباسط الأنسي» عن سِيرةِ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، مُصَحَّفَاً بـ «حلابه»، يَمتلكُ مؤسَّسةً تجاريَّة كبرى؛ مِن بينِ نشاطاتِها، العديدةِ والمتنوِّعَةِ، استخدامُ باخرتين لِنَقْلِ البضائعِ والرُّكَّابِ، بَين «الاسكندريَّة» وبعضِ مرافيء «البَحرِ الأبيض المتوسِّط»؛ وكانت الباخرة «قاصد كريم» تعمل على خطِّ الاسكندريَّة-بيروت، في هذا المجال.
لم يكُنْ «سعد الله حلابو»، مجرَّد رجلِ أعمالٍ عاديٍّ، على الإطلاق. كانت له صلاتٌ أساسٌ مع أهلِ السُّلطةِ والحُكْمِ وناسِ السِّياسة في عصره؛ وكان مِن المُساهمين الكِبارِ في «الشَّركة العزيزيَّةِ»، التي أُنْشِئت سنة 1868، في عهد «الخِدِيوي «إسماعيل» (1863- 1879م)، نسبةً إلى السُّلطان العثمانيِّ «عبد العزيز»؛ وكان الأسطولُ التِّجاريُّ الذي تملكه «الشَّركة العزيزيَّة»، مُكَوَّنا مِن سُفُنٍ مخصَّصةٍ لِنقل البضائعِ، بين موانئ البحرين الأبيض والأحمر. ومِن جِهَةٍ أخرى، فقد كان «سعد الله حلابو»، مِن الكِبار الذين ساندوا الثَّائر المصري «عبد الله النَّديم» (1842-1896)، الذي يُعْتَبَرُ من زُعَماءِ النُّخْبَةِ المصريَّةِ المُثَقَّفةِ في عصرهِ، ومِن الصًّحفيين الذين واجهوا مع القائد المصريِّ «أحمد عُرابي» (1841-1911)، الفسادَ السِّياسي والاستبداد السُّلطوي للأجانِبِ في مصر؛ كما ساهمَ «حلابو»، ضمن نشاطاته الثّقافيَّة والسِّياسيَّة، في إنشاء «الجمعيَّة الخيريَّة الإسلاميَّة»، في «الإسكندريَّة»، سنة 1879م.؛ وعمِلَ على تشجيعِ الحركة المسرحيَّة في الإسكندرية وتنشيطها؛ إذ نجح في استقطاب مَسْرَح «أحمَد أبو خَليل القبَّاني» مِنْ «دِمَشْق» إلى «الاسكندريَّة» و«القاهرة»، سنة 1884؛ بعد أنْ كانَ السُّلطان العثماني قد أصدر أمراً بإغلاق هذا المسرح في «دِمَشق» سنة 1883. وقد يكونُ من الطَّريف، ههنا، أن أسرة «سعد الله حلابو»، ارتبطت بالعائلة المالكة في مصر، بصلات قربى ونسب؛ إذ اقترن، «شفيق»، ابن «سعد الله حلابو»، بـ «زبيدة»، ابنة الأمير «حسين كامل»؛ وكانت الممثلة المصريَّة المشهورة، «زبيدة ثروت»، من أحفاد هذين الزَّوجينِ؛ كما أنَّ «بلديَّة الاسكندريَّة» أطلقت اسم «سعد الله حلابو» على أحدِ شوارعِ منطقة «مُحَرَّم بِك» فيها؛ وما فَتئَ الشَّارع يحملُ هذا الاسمَ حتَّى اليَوْم. (مصباح: الموسوعة التاريخية لأعلام حلب).
يبدو أنَّ الشَّاب اليائِس «احمد عبَّاس سليمان»، لَفَتَ نَظَرَ بعضِ العاملينَ في «الشَّرِكَة العزيزيَّة» التي تنقل بواخرها المسافِرِينَ مِن «الاسكندرِيَّة» إلى «بيروت»؛ وعلى الأرجح، فإنَّ خَبَرَ الشَّابَّ البَيْرُوتِي البائِسِ واليائِسِ وَصلَ إلى مسامِعِ السيِّد «سعد الله حلابو»؛ المعروف بِحَدْبِهِ على أهلِ العِلْمِ والثَّقافَةِ بشكلٍ عام، وعلى أبناءِ «برِّ الشَّامِ» مِنْهُم، بشكلٍ خاص. ويُمْكِنُ للمرءِ أنْ يَتَصَوَّرَ، هَهُنا، مَنْظَرَ الطَّالب الأَزْهَريِّ الكَئيبِ، وَهُوَ يَسْتجيبُ، بِكُلِّ ما فيهِ مِن أسى، لدعوةِ من السيِّد «حلابو»، لمقابلته والتَّعَرُّفِ عَلَيْهِ. وتُشْرِقُ المُفاجأةُ، ههُنا، فَجْرَ حَياةٍ، يَعِدُ بِأَلْفِ أُغنيةٍ عَذْبَةٍ للظَّفرِ والنَّجاحِ والمُسْتَقْبَلِ الخَيِّر، إذْ يُبْلِغُ السيِّد «سعد الله حلابو»، الشَّاب الأزهريَّ «أحمد عبَّاس سُليمان»، أنَّه لَنْ يُسْمَح لهُ بِالصُّعودِ إلى الباخرةِ المتوجِّهة إلى «بيروت»؛ فَلا مَناصَ لهُ مِنَ الرُّجوعِ إلى «القاهرة»، والعملِ فوراً على مُتابعةِ ما تبقَّى لَهُ مِن الشُّهورِ القليلةِ في دراسةِ مُتَطَلِّباتِ السَّنةِ الأخيرةِ مِن تَحصِيلِهِ لِشهادَةِ «الأَزْهَر». ويُمكنُ للْمَرءِ أنْ يَتَخَيَّلَ، ههنا، الإرباكَ والحَيْرةَ اللَّذانِ أصابا الشَّابَ «احمد عبَّاس سُليمان»، وَهُو يَسْتَمِعُ إلى هذهِ التَّوجيهاتِ الصَّارِمَةِ للسيِّد «حلابو»؛ بلْ لعلَّهُ مِنَ المُمْكِنِ جِدَّاً أنْ يَعيشَ المرءُ مَع هذا الشَّاب ارْتِبَاكَهُ مِن تَدَخُّل هذا الغريبِ عنهُ، بِشأنٍ شخصيٍّ خاصٍّ بهِ؛ وأنْ يَخْتَبِرِ، كذلكَ، حَيْرَة الشَّابِ، إنْ كانَ لا مفرَّ لَهُ مِن هذهِ العودةِ إلى «الأَزهر»، في كَيْفيَّةِ تَدَبُّرِ الأَمْرِ، وَهُوَ صِفْرُ اليَدينِ، لا مُعينَ لَهُ على فَقْرِهِ الماليِّ ولا مساعدَ يعرفه لِيَرْفَعَ عَنْهُ بَعضَ ما كانَ يُعانِيهِ مِن أَلَمٍ نَفْسِيٍّ خانِقٍ، ومِن كآبةٍ قاتِلَةٍ، ما انفكَّت تَتَفشى في كلِّ ما لَدَيْهِ مِنْ وُجدان. ولم يَطُل هذا الحالُ كثيراً، إذ يُخْبِرُ السيِّد «حلابو»، الشَّاب «أحمد عبَّاس سُليمان»، أنَّ كلَّ ما سيحتاجُ إليهِ مِن مالٍ، لإتمامِ ما تَبَقَّى لَهُ مِن دراسةِ هذهِ السَّنةِ الخامِسَةِ والأخيرةِ لتحصيلِ الشَّهادة الأزهريَّةِ، سَيَتكفَّل هو شخصِيَّاً بتأمينه له؛ ومِنْ دُونِ قَيْدٍ أو شرطٍ، سوى قَيْدِ المثابرةِ على الدَّرسِ وشَرْطِ النَّجاحِِ في الحصولِ على الشَّهادة.
يرْجع «أحمد عبَّاس سُليمان» إلى «القاهرة»، وهو مأخُوذٌ، بما يُشبه السِّحرَ وأكْثَر، في كَيْفِيَّةِ حُصولِ هذهِ العقبةِ الكأداء التي انتصبت مارداً طاغِياً في وجهِ إتمامِهِ للمرحلةِ الأخيرةِ من الدِّراسة؛ وكيف كان لكلِّ هذا أن يَضْمَحِلَّ، وكأنَّ شيئاً لم يَكُن، بمبادرة خّيِّرَةٍ، مِن شَخْصٍ لَمْ يحصلْ أنْ ألتقاهُ مِنْ قبل، أو رَبَطَتْهُ بِهِ أيَّةُ مصلحةٍ شَخْصِيَّةٍ؛ ولَعَلَّ «أحمد عبَّاس سُليمان» أدرك، ههُنا، في وَعْيِهِ، أو حتَّى في لا وَعْيِهِ، أنَّ ثَمَّة خُيوطاً تَرْبُطُ ما بينَ تَلْمَذتِهِ على الشَّاعِرِ «عُمَر الأنسي» في «بيروت»، ولقائِهِ، مِن ثمَّ، الأمير «محمَّد أرسلان»، الذي حَضَّهُ على متابعةِ تحصيلهِ العِلْمِيِّ في «الأزهر»، إذْ كان يزور أستاذه الشَّاعر «عمر الأنسي»؛ وبينَ هذينِ، واندفاع الحاج «حُسين بَيْهُم»، لتقديمِ منحةٍ ماليَّةٍ لَهُ، مِن وقفِ «آل بيهم»، للالتحاقِ بالأَزهر؛ مع هذهِ البادِرَةِ الطَّيِّبةِ لإتمامِ دراستِهِ، يُقَدِّمُها لهُ، بمحبَّةٍ وسخاءٍ، السِّيد «سعد الله حلابو». ولَمْ تمضِ سِوى أشهرٍ قليلةٍ، مِنْ سنة 1874، حتَّى كانَ للشَّابِ «أحمَد عبَّاس سُليمان»، وقَدْ صارَ في الحادِيَةِ والعِشْرين مِن عُمْرِهِ، أنْ تَخَرَّجَ في «الأزهر» حيثُ «القاهرة»، «أمّ الدُّنيا»؛ ويعودُ، مُظَفَّراً بالفَوْزِ ومُكَلَّلاُ بالسَّعادةِ، إلى مدينتِهِ «بيروت»، وقد ارتدى الزِّيِّ التَّقليديِّ لعلماء الدِّينِ الإسلاميِّ، وصار، مُذْ ذاكَ اليوم، يُعْرَفُ باسمِ «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري».

وإلى الِّلقاء مع الحلقةِ الخامسة: مِنَ التَّدريسِ إلى بَيعِ الخُضار

*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى