ساحة العيد و المهرجان الكبير/ قصة قصيرة / د. طارق عبود

الدكتور طارق عبود
ساحة العيد،والمهرجان الكبير
عيد الأضحى أصبح أقرب من أي ّيوم مضى. غروبٌ واحدٌ فقط، وندخل الحدث الكبير..الأطفال جاهزون للاحتفال. الملابس مكوية،مركونة في الجزء العزيز من الخزانة. كنّا نتفقّدها بين الحين والآخر، خوفًا من أيّ مؤامرة ترمي بنا خارج اليوم الموعود.
العصر يعلن عن نفسه،الشمس أصبحت أقل حدّة.نساء القرية والصبايا،يتقدمن زرافات ووحدانًا نحو الجبانة. عملية التحضير للحدث الآتي على قدمٍ وساق.لقد بدأنَ بغسل القبور.ثمّة منافسة قائمة على تنظيف الرخام والباطون من غبار الموت،ومن أشواك الحياة التي تحيط بالمكان الموحش.
“السيد قاسم” ينصب المرجوجة تحت الحاووز.الصغار منتشون بما يحصل، أمامهم، وكأنهم في محضر مسبار فضائي سينطلق بين الحين والآخر إلى الفضاء الخارجي..
لحظات، وتنتصب الأرجوحة الخشبية، ذات الحبال العاجية السميكة. يصعد بعض الشباب لتجربة متانتها، لا يُشبِع ُجموحهم الوقوف في الصندوق الخشبي المتين،يصعدون إلى حافته،يمارسون هوايتهم في رفع الصندوق إلى الأعلى، حتى يكاد يرتطم بجسر الباطون الأفقي للخزان الكبير..
يرتفع صوت المؤذّن لصلاة المغرب.يتفرق الجمع الى البيوت بانتظار اليوم العظيم.
أذهب إلى منزلنا القريب،أمي تنتظرنا عند العتبة، تتكفّل بتنظيفنا بنفسها،لا تثقُ بما قد نقوم به، لوحدنا، هي تتولى شخصيًا فركنا بالليفة الخشنة،أحسبها تنتقم من جلودنا المتسخة بغبار الملعب. نخرج من الحمام أطفالًا آخرين،وجوهنا بيضاء تلمع تحت الضوء. نستعجل النوم بانتظار الصباح. ما زلتُ إلى اليوم أذكر الآية التي سمعتها في مكان ما:”أليس الصبحُ بقريب؟” ولكنني في تلك الليلة شعرتُ أنّ الصبح لن يأتي أبدًا.أرقد على فرشتي في الغرفة المكتظة بالأطفال،أحاول النوم فلا أستطيع إليه سبيلًا.أمشي على رؤوس أصابعي بين إخوتي،أتوجه نحو الخزانة الخشبية،أتفقّد ملابسي الجديدة،وأشمّ رائحة حذائي الأسود اللامع.ثم أعود إلى مضجعي،أحاول أن أغمض عينيّ مرة جديدة،ولكن عبثًا،ثمة من يصرّ على منعي من النوم.أتذكّر الآية من جديد،أليس الصبح بقريب؟ ولكن الصباح يبتعد ويبتعد،ويكاد لا يتنفس،ينتصف الليل على هذه الحال.
بعد لحظات أفتح عينيّ، فإذا الشمس قد أشرقت،أهرعُ إلى المغسلة،أغسل وجهي بالماء،أضع بعضه على شعري محاولًا تصفيفه بطريقة تليق بالمناسبة العزيزة.
أرتدي ملابس العيد مزهوًّا فرحًا، وأفتح الخزانة الوسطى التي تحتوي على المرآة الوحيدة في المنزل.ثمة فرشة سميكة تمنعني من ذلك. أزيح الفرشة الملونة،وأقف منتصب القامة أمام المرآة،أشعر أنني ممثل سينمائي من دون كاميرات ولا إضاءة ولا مخرج. فرانكو كاسباري ينظر إليّ من خلال الصورة الملتصقة في أعلى المرآة، وكذا يفعل جون ترافولتا بقميصه المفتوح عن صدره،وعينية الزرقاوين.. لا أعطي فرانكو أي اهتمام، ولا حتى جون. فأنا أشعر أنني لا أقل شأنًا عنهما اليوم.
أرتدي حذائي الجديد،أربط شريطه جيدًا،أضرب قدميّ في الأرض كجندي إنكشاري يتأهب لتأدية التحية لجمال باشا الجزّار.
أمي وأخواتي البنات يتهيأنَ للنزول إلى الجبانة. غيوم البخور تملأ المكان، عبد الباسط يتلو آيات القرآن. المقبرة تعجّ بالنساء المتشحات بالسواد.لم أستطع تفسير الربط بين الجبانة والعيد. وكنتُ أسألُ نفسي: لماذا نُدخِلُ الموت حتى في الأعياد؟ أليس من مساحة خالصة للفرح في حياتنا؟ أم أنّنا نستأنسُ بالحزن أكثر من الفرح؟ أكاد أختنق من سحاب البخور التي غطّت المكان.ثمة مباراة في من يجعل البخور يصعد أكثر في الجو؟ شعرتُ للحظة وكأنني في طقس هندي.. لا وقتَ الآن لفلسفة الأمور..قرأتُ الفاتحة على قبر أخي الشهيد،وقفلتُ مسرعًا نحو البيت.تناولتُ سندويشة الصعتر مستعجلًا،فالشهية مفقودة في تلك اللحظة التاريخية،ثمة حدث كبير سيحصل في الساحة بعد قليل،ووجودي أساسيّ في المكان ،ربما بدأ الشباب في أخذ أماكنهم على فريز المسجد.
وصلتُ إلى الساحة، وإذا برائحة الفلافل والسجق والفتايل تعبق بين الأطفال، مصدرها مطعم أبي إحسان. الممثلون الموسميون يرابطون على مسرح الحدث.مراطبين الزجاج الممتلئة بأكثرها في الماء حاضرة أمام بعضهم للمبارزة الكبرى.ثمة كوب شاي يرقد في أسفل مرطبان الزيتون الزجاجي الخالي اليوم من الزيتون. عباس ينادي بصوتٍ عالٍ: “فرنكك رُبُع”.. يصل أبو حسين حاملًا صدر التفاح المغمّس بالسكر الأحمر على رأسه،يأخذ مكانه المعتاد إلى جانب درج المسجد،ويبدأ بقول السجْع المحبّب للأطفال.
أبو خليل يركن العربة الشهيرة إلى جانب دكان الحاج علي. تبدأ مواكبُ الفرح بالوصول. عرباتٌ مصنوعة من خشب متين من صناديق “البساط” المخصصة لنقل الحمضيات. الدواليب-النورمانات المشحمّة ترقد تحت الصندوق. صوتها يضفي على المكان حيويةً محبّبة..مواكب الأطفال صارت جاهزة أيضًا…ثمة مبارزة مخفية لمن يرتدي الثياب الأجمل. أمشي بين الحين والآخر بين الجموع، متحسّسًا بنطلون الجينز الكحلي، وعيديّتي ترقدُ في الجيب الأمامي.
تمتلئ الساحة عن بكرة أبيها. ها قد بدأت طقوس العيد. احتفالية مشهودة وعظيمة. شعرتُ أنني في الحيّ الصيني في مدينة نيويورك الذي شاهدته في فيلم “بروس لي” لعبة التنّين”…تختلط أصوات البائعين،مع أصوات الزهر والطاولة.وصوت أبي حسين يردّد ما حضّره من شعر وزجل.
جهّز أحمد نفسه ومنصته المميزة. صنع خشبة فتح فيها سبعة ثقوب كبيرة تشبه أبواب الفراعنة.وضعها على طاولة كبيرة..على المراهن أن يمرّر “الغلّة” من إحدى الفتحات فيفوز بالرهان،وإذا ارتطمت بما بين الأبواب خسر رهانه وعاد خائبًا. عباس يراكم أرباحه من مرطبان الزجاج،من الصعب أن ترمي الفرنك أو العشرة متخطيًا ضغط الماء،فينزل غالبًا لولبيًا مخطئًا المرمى المؤلف من فنجان الشاي الصغير. أنظر إلى الفرنكات، وعشرات القروش والأرباع ترقد في قعر المرطبان. ثمّة ثروة راكمها عباس من هذه المهنة..
موسيقى الفليبرات تصل إلى الخارج.الحسناء الغربية التي ترتدي المايوه تتمدّدُ في صدر الشاشة، أبو عمران ينظّم صفوف الأطفال الذين يقفون بالدور خلف الفليبر. “حسن” المحترف في اللعبة ينتشي من صوت الفِيَش التي تطقطق واحدة تلو الأخرى. الأطفال يرمقونه بنظرات الحسد،يتمنون خسارته، لكي يأتي دورهم في اللعب.
النهار ينتصف،أنتقل إلى مكان آخر. المهرجان القائم تحت الحاووز. الشباب يتناوبون على المرجوحة المكتظة بهم وبالأطفال الذين يجلسون على الأرض.الأصوات تتعالى من الخوف، ومن الفرح. الباعة يتوزعون في المكان كرجال المخابرات.صناديق الجلول والكراش تتكدس فوق بعضها. الأطفال لا يرتوون.ثمة عطش تاريخي للمشروبات الغازية. يجلس صبي إلى جانب عمود الخزان الكبير ،يحمل قنينة كراش متعرّقة، يرفعها إلى فمه، ومن فرحه، تحسبه يحمل كأس الأندية الأوروبية البطلة.
“الفتّيش” يلعلع في السماء.هذه كانت ميزة متاحة لقلة من الأطفال الميسورين فقط،صديقي قاسم كان أبرزهم. أما الأغلبية فكانوا ينتظرون الغروب.يسرقون “سيف الجلي” من تحت المجالي،يقفون بشكلٍ دائري كالدراويش، ويشعلون الطرف الأمامي من السيّفة،ويشرعون يرفعونه حول أجسامهم،فيصدر شراراتٍ مبهجةً تضيء غروب المكان.
يرتفع صوت المؤذّن،معلنًا نهاية اليوم الأول من العيد. نقفلُ عائدين إلى البيوت، محمّلين بفرحٍ طفوليّ لا يعوّض.ندخل البيت مغبّرين.تنفض أمي ثيابنا ،تعيد ترتيبهم ليوم فرحٍ آخر، ما زلنا نفتّش عنه إلى اليوم..