جماليات التخييل في تشكيل الصورة الشعرية لدى الشاعر السوري فهد اسحق
جماليات التخييل في تشكيل الصورة الشعرية لدى الشاعر السوري فهد اسحق
الناقد و الشاعر نزار حنا الديراني
قبل كل شئ أود أن أشير الى أن نصوص الشاعر السوري المغترب فهد اسحق والمنشورة في مجموعته ( الـصّـفصــاف الذي عبر النهر ) الصادرة من دار نينوى للنشر / سورية – دمشق 2019.. قادرة على الانفتاح والتشظي كونها تستمد حيويتها ووجودها من خلال التقاطع والتوازى ما بين السردية والغنائية مما يؤهلها الاتصال مع الماضي والحنين اليه والتشابك مع لحظاته ، وهو بهذا يكرس لنفسه جماليات الصو رة بدءً من عنونة الموضوع ( الـصّـفصــاف الذي عبر النهر ) وحيث من خلاله يرسم لنا مشهدا حزينا هادئا ينسجم مع السيرة الذاتية للمهاجر الذي يترك بلده بكل هدوء وهو يكتنفه حزن الفراق ومصيره المجهول متخذا من الصفصاف الذي يسلم أمره الى حركة النهر وتقلبات الجو قاعدة للانطلاق كون الصورتان تشهدان انفتاحا لا نهائيا على الماضي وتكسر الثوابت وتحطم الأسلاك التي وضعتها أمامه الغربة وهو يعيش فيما يشبه بالمنفى بحدوده الشائكة ليجعل القارئ من خلال صوره يرى الغنائي فى السردى والسردى فى الشعري كقوله :
تسألني الأزقة
عني وعنكم
أنا الذي سبق كبريائي تواضعكم
أحضاننا باردةٌ
وقرانا أمهات ثكالى
أضحت كفيفة
بيد أن استثمار تقنيات السرد في النص الشعري لدى الشاعر فهد تُفضيان إلى تأويل افتراضي لحلمه المستقبلي الغامض فضلا عن كونها دالة على مفارقة تتبدى فيها تجليات الواقع المأزوم والهش عبر ما تكشفه من خلال رؤاه، ومراياه من هواجس وشحنات تُحيلها إلى فضاء شعري تتبدّى من خلالها ظاهرة شعرية لأناه والآخر، فتقترب شيئا فشيئا من الذاتي/ الطفولي والتأملي، وحيث تأتي هذه الشعرية عبر أشكال تختلف عن السرد الحكائي، لأن النص لديه يحافظ على مقوماته في الإيقاع والتصوير والتخييل وغير ذلك… ويظهر المتن الحكائي في نصوصه من خلال العودة الى الجذور كقاعدة أساسية يبني عليها الشاعر نصه، ويستمد منها أفكاره ورؤاه، وهو يستثمر ماضيه وتعالقه بذكريات طفولته في القرية في سبيل كتابة إبداعية تنتج نصاً شعرياً نوعياً يكثف السرد الحكائي في بنية تناسب تناسبا طرديا مع ضرورات الشعرية والغنائية، كقوله :
مرفأ الذاكرة
يعُجُ بمراكب محملة بالأمس
الأنتظار رصيف عاجز
والحنين ريح تمزق أشرعة القلب
حين يفقد البحر جزءاً من زُرقتِه
يصفع الصخر بكل هذا الموج !
وفي مكان آخر يقول :
في حوش الدار المغيب ،
ونواقيس كنائس القرى المحيطة
المتواقتة مع دقات قلبه ،
الدكان الصغير وصاحبها
الذي لا يمل متمتما
من ملاحقة شقاوتنا
هنا وهناك ،
نص كهذا يعكس صور الحنين بدلالاتها الافتراضية الموغلة في المعاناة الانسانية الناتجة من التهجير القسري وهي تحمل جوانب ذاتية وموضوعية متعددة تفضي بنا إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك أمامنا ، لتكون المرتكز الذي تعتمد عليه البنية السردية في جميع نصوصه فالنسق الشعري لديه نسق وصفي ؛ وشعريته مولعة بتشعير الأنساق الوصفية من خلال فضاء متخيله الشعري الذي يخلق دهشته وتتفجر طاقته عبر لعبة الوصف، والتلمّس :
إثنان لا يمكن نسيانهما
قمر قريتي
ووجه أمي
نتلمس ميل الشاعر الى الأتكاء على البنية السردية في نصوصه الشعرية من خلال استخدامه للصور ذات العلاقة الوطيدة بسيرته الذاتية ، خصوصا عندما يتعلق الامر بالحضور المكاني للماضي الذي لا يزال يلازمه بمفرداته وواقعه والحاضر ، اذ يؤطر صوره بلغة مباشرة قريبة الى ما تختزنه مخيلتنا من صور ومفردات لسيرتنا الذاتية، مما يسمح للصور الشعرية المنبثقة من الحياة اليومية في القرية / الطفولة أو المدينة ( الجهة التي انتقل اليها الشاعر لاحقا) بالتوالد والانصهار بتجربة الشاعر لتعكس لنا ما تحمله أناه ….
الدالية والسنبلة
وهذا العصفور الدوريُ
ثلاثيَ المقدس
يرافقني اينما ذهبت !
وهو بهذا يهيئ الأرضية الملائمة لتطور الحدث، وما يرتبط به من أفعال الشخصيات وسلوكياتها وحواراتها، وما يقتضيه هذا الأمر من الحبكة والنسج والبيئة، حيث تتفجر طاقته الشعرية عبر التصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس الحنين الى الماضي والقرية، ذالك الهاجس الذي يحضرُ بوصفه صانعَ اللذة، وهو المحفز في الوقت نفسه على الرؤيا للمستقبل في بلاد الغربة .
إن بنية الاستعارة القائمة على أعادة صور من الماضي الى مشغله الشعري لبث الحياة والحركة في الجمادات والأشياء تسهم في نقل هذه الأشياء من طابعها المجرد الى المحسوس، وتجعلها تولد دلالاتها الموحية والتي تمتد الى ما لا نهاية من خلال إضفاء البعد الإنساني عليها من خلال تمثلات الشاعر لفعل اللذة، وفعل استعادتها ليست بعيدة عن رؤياه الشعرية إذ تتحوّل هذه الرؤيا الى هاجس،حيث يتسع انفتاح الشاعر على المكان/ الماضي حيث تتبدى الأصوات التي توهبه البهجة والنشوة، والتوتر قصيدة كهذه هي الأقربُ الى قصيدة الحلم :
ينام الأطفالُ
ملوحين للقمر الذي
يحرس أحلامهم
لم نغفل لحظةً
ومع ذلك سرقت أمانينا
وهي على قيد هلال
شعرية الكشف، هي ذاتها شعرية الاتساع ، حيث يبحث ويجترح ويتكئ على سردية ليوهب قصيدته غريزة استحضار الماضي إذ يتكئ الشاعر على فضاء من الصور التي تتبادل التشبيه وتتمازج لتصنع المشهد الشعري بصوره الجميلة التي تلمّس ما يتخفى من الجمال في القرية، حتى تبدو النصوص وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناه المنطوية، القلقة ، وهي بهذا تشبه الصفصاف الذي يعبر النهر وهو يغني في داحل نفسه لينفث ما في صدره من هموم الوداع والسير نحو المجهول .
قصائد تنبت في قلبي
داليات محملة بعناقيد حزن عتيق
وسنابل قمح عطشى
تبحث عن نهر رفيق
يسكنني ولا تراه
نصوصه هذه تُحيلنا الى القرية، والى الحكاية التي تخصّ عوالم القرية لما تقدمه من جمال وهدوء مقابل ذلك هناك الخوف في المهجر والبحث عن الملموس، وعلى مايتبدى من صور الحضور التي تصنعها المدينة، بكل ما يصطخب بها من قلق وجودي، وما تهجس به من تحولات عميقة، وعلى ملامح الوجود المُهددة بالمحو :
منذ أن فقدتُ مجراي
وأنا أسير حافي الأغصان
ممزق الأوراق
تلاحقني الشمس منذ آلاف السنين
لكنها عاجزة حتى الآن
عن تحريك درجة واحدة نحوها
من جليدي
فهذه المتن الحكائية بصورها الجميلة والمتداخلة والمتشابكة والتي ترمز إلى هاجس يومي تطغي على قصائد الديوان وتعتبر قاعدة أساسية يبني عليها الشاعر نصوصه الشعرية القصيرة والتي تشبه الخواطر ، ويستمد منها أفكاره ورؤاه، لينتج منها نصاً شعرياً مكثفا بالسرد الحكائي يلائم ما نسجتهُ مخيلته من التقصد العيني لما له من دلالة راسخة على الارتباك والترقب أي الخوف من المجهول ، هذه الأشياء القلقة غير المستقرة حتى في العتبة النصية ( الـصّـفصــاف الذي عبر النهر ) وحيث الصفصاف المشار اليه يتراقص في مسيرته من خلال اجتياز نهر الخابور مع ذهنية قلقة تبحث عن العلو والسمو والامان بروح تود الخلاص والإفلات من الدونية التي كانت تحاك اليه في قريته ، لذا جاءت صوره عبر سيل من التمني بالتحليق الآمن ..
بين قطعان الصفصاف ورابيات الزيزفون
ولدتني أمي
حيث كنت أزحف جائعا نحوها
لم أكن أدري أن ثديها (النهر) سيبتر يوما
وأن مناغاتي للحياة ستُرمد
وسيشتهي الحطابون جذعي
وترمى أغصاني بلا رحمة
تحت اقدام أعداء الخضرة
والحضارة
ان الصور التي يرسمها الشاعر في مجموعته ( الـصّـفصــاف الذي عبر النهر ) بتموجاتها وتلاشيها ، تقترب من تموجات النهر وحيث الصفصاف تراهُ يهبط ويعلو وكأنه في رقصة جاءت بضربة ملائمة للتوظيف والتشبيه الجميل والتأويل فيه يقودنا إلى متابعة الحدث وما يفضي به الوجود الذي يفضي بنا إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك أمامنا ، من خلال ما يتركه كل من الشاعر والصفصاف على ارض الواقع من ذكريات تعكس وجوده … كقوله :
وكل هذه الأشواق
المتمايلة مع نسائم الذكرى
هي سنابل قمح نبتت
في أثلام جبين أبي ،
احصدها بمنجل الأيام
لتحملها عربة التنهيدة
الى بيادر العمر
هذه الهواجس تتحرك بالنيابة عن الرعب المتأصل في الذات المصابة بخوف مستديم طفوليا وهو يعيش عالما جديدا لا يشبه عالمه القديم ، لذا تتحرك هذه الهواجس من خلال تحرك الصفصاف وهو ينقل خطواته بشكل مثير متخذا من والديه القوة التي تدفعه للسير ثم تختفي فجأة وتتحول إلى أشياء تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات كما هي رؤى الأحلام والكوابيس ، والمرئيات التي يتحسسها المعني بحالته تلك :
ابي
وهو يحرث النهار
بتنهيدته العميقة
مزيحا عن دربه الترابي
بعصاه الرمانية
حجارة صغيرة
لكيلا يتعثر بها أحد
وختاما أقول :
أن الذكريات لدى الشاعر فهد أسحق كغيره من الشعراء تمثل بؤرة الحراك الشعري، ومكمن تفجير الدلالات؛ فحين يحركها ويهيجها تتوالد لديه نتاج خصب تستكشف منه تساؤلات ذات طاقة توالدية دلالية محملة بروح الشعرية والحيوية. فاستلهم السرد كوسيلة تمنح الذات إمكانيات هائلة للتعبير عن رؤاها الشعرية وفق منظور حداثي ، فكل حركة في الوجود لا يمكن أن تحدث خارج الإطار الزمني. وكل سرد يتّخذ مسارا زمنيا لإعادة تصوير ما وقع والإخبار عنه.
لذلك كانت القصيدة السردية لدى الشاعر فهد، ذات بنية زمانية تتشكل من خلالها معالم الحكاية … حيث تمكّن من الاسترفاد من معين النسق الحكائي من خلال أعتماده على الذاكرة كمحرك أساسي في بناء القصيدة السردية ، فأخذ الحوار الضمني حيزا مهما في قصائده ومثّل مكوِّنا بنائيا أغنى النص بالحيوية والحركة، وأمدّه بالنمو والفاعلية .