أدب وفن

اللغة سلطة تجاوزية/بقلم الروائي عمر سعيد

اللغة سلطة تجاوزية.

تشمل ملكية اللغة بالإضافة إلى أبجديتها الإنسان والعقل والفكر البشري، وصندوق النطق والتنفس.
وبذلك تفرض على الأفراد والمجتمعات قوانينها، ونظمها التي تمكنها كسلطة مرنة من السيطرة والنفاذ والتغيير والتطبيع فالتدجين.

فاللغة كسلطة غير مرئية، تثير بحضورها الخفي انتباه قلة من الذين يدركون آليات عمل هذه السلطة، بما لها من قدرة على اتقان التوهيم، والتضليل، وتطويع كل شيء، وتشطير الحقيقة إلى حقائق لا تحصى، وقلب المواقف.

وأول ادعاءات اللغة قولها: “أنها بنت السماء” وأنها كائن علوي.

وهي وإن كانت كذلك، إلا أن مهمتها الأبرز هي تدجين الإنسان، واستعباده، لا تحريره، واطلاقه.

وإذ تتوهم الغالبية الكبرى من عوام الناس أن اللغة هي حبل السرة الذي يربط الأرض بالسماء، غير أنها وعبر التاريخ كانت القيد الذي يربط الحاضر بالماضي، والقادم بالراحل، والجغرافيا بالوجدان، والجسد بالجسد، بطريقة تكلف كل تحداثة ما يرهقها من تكاليف، قد تبلغ الدم في الغالب.

لذا فإن أسوأ ما في اللغة كسلطة تعاليها، فهي وإن انبعثت من موقع دوني، تُطِل فوقية التوجه والإرادة.

فإذا تسللت اللغة إلى يائس، كذبت عليه بالأمل، وزينت له السراب.
وإذا ما تناولت جائعاً أتخمته بالصبر والفرج.

ذلك لأنها أشد الكائنات تكيفاً في هذا الكوكب، وأكثرها إصراراً على المضي قدماً، وعدم الاعتراف بجدوى التراجع واللاحل، مع كل هذه آلآلام المستجدة في العقل والفكر والروح والجسد، واللامتناهية في تجددها يوماً بعد يوم.
وهي طاقة متحركة، تمنح كل لسان قدراتها وإمكانياتها وسلطتها وأدواتها اللا محدودة، مهما تفاوتت أهداف الألسن وليونتها.

فبها يؤكد السيد سيادته على عبده، وبها يتقرب العبد، مقدماً تذلله لتعظيم سيده العلوية.
وبها يقتنص البائع لهفة الشاري، وبها يتسلق الشاري ضعفه لمواجة البائع.

إنها السلطة الوحيدة التي تسود فوق الحاكم والمحكوم، والسيد والعبد.
سلطة لا تمل السعي لتوسيع نفوذها في جغرافيا العقل والروح والفكر والجسد .

لا شيء يشبه هذا الكائن ( اللغة ) في مداهناته، وتلوناته، وإمكانياته التي يملكها، ليتحكم بالإنسان وفكراً، وغريزة، ومادة وخيالاً وغيباً، ليصنع واقعاً، يتفق مع حركته التي تتواءم مع الجغرافيا الداخلية لناطقيها.

والملفت أنها سلطة خطيرة وجداً، لا محدودة التحرك، تنشىء أقانيمها داخل اللاوعي والوعي، وتؤثثها بتأثيرات المفردة المليئة بالاحتمالات والتوظيفات المعدة عبر القدسية التي يضفيها عليها التاريخ والقدم والإحساس.
تفعل فعلها، ثم تنكفىء، ليظن الفكر استقلالية آدائه ومسؤولياته عن قراراته.
ويعتد الإحساس أنه راكبها إلى لاوعي الآخر.

فاللغة سلطة تملك من خطط الكر والفر ما يفي لفرض هيمنتها الوحيدة في أقاليم النزال، فتطرب المنتصر لانتصاراته، وتعد المنهزم لتجرعه الهزائم.

إنها سلطة تستطيع إنتاج ذاتها في ما لا يحصى من أوجه، وحالات، ومشاعر، ومواقف، وأفكار، ومصائر.

فتنتج التفرعات، والاشتقاقات، والانزياحات، والتناص، والنحل، وما يفوق أعظم طاقة استحسان وقبول يمكن تخيلها، طاقة مغداقة تنعش المتلقي، وتعزز تعالي المرسل.
والكلمة هي النص، والنص هو اللغة، واللغة هي القوانين والنظم التي شكلت أطر المجتمعات وحددت سلوكياته، وأنماط تفكيره، ومثبتات عاداته وتقاليده، وضوابط تحركاته عبر التاريخ، إذ أنه لا يمكن وبكل جزم وجود أفراد أو مجتمعات بلا لغة.

ومن أشد غرائبها أنها تنصب، وترفع، وتكسر، وتجر، وتمنع، وتقدم، وتؤخر، وتحذف، وتنفي، وتؤكد، وتبني، وتعرب، وتعرّف، وتنكر، وتنشىء، وتخبر، وتستفهم، وتتعجب، وتستنكر، وتنادي، وتحصر، وتفرد، وتثني، وتجمع، وتذكر، وتؤنث، والكثير الكثير من الوظائف التي تنصف كل رغبة أو حاجة أو مزاج، وفي أي زمان ومكان وأي ظرف، ولأي حالة تخطر أو لا تخطى في البال.

والعقل تحت سلطتها في ذهول، ورضى، وشغف، ونهم، واجترار، وتربص.
والغبي الغبي من يدعي أن اللغة مجرد اداة تواصل.
لأن التواصل يفترض خطوطاً أفقية بين الشفة والأذن.
إلا أن اللغة تملك كل أشكال الخطوط الدائرية منها والمستقيمة، والمنحنية، والمتعرجة، والعامودية والأفقية والمائلة، بما بتوافق مع التراكم الزمني لعوامل الفهم في كل فرد، وموقف، وظرف.
وهي تعيد تشكيل الملامح وبما وكيفما أرادت من أشكال، وأوجه، وحالات، وانفعالات، وإن وبدت تترك للإنسان مساحة، توهمه الفهم والإفهام والادعاء.

إذن هي وبكل تأكيد ليست مجرد دليفري ( أداة توصيل) فقط.
بل هي موصل خفي يمكنه تغيير الوجهات والاتجاهات وفي أي لحظة دون أدنى حرج، أو تهيئة، أو استئذان.

لأنها توصيل موجه متعمد، حتى إن خلا الموصَل والموصِلُ من أي هدف أو مضمون.

فاللغة سلطة مطلقة، لا تضاهيها سلطة. لأنها محتوى كل مادة قبل أنت تكون، وكل معرفة قبل أن يتجلى اكتمالها، وكل افتراض قبل أن يلامس الخيال.

فيها يحضر كل شيء.
وبها ينبعث الخيال شطاحاً.
فتُستحدث المادة فكرة، تتخذ أبعاداً، ما كانت لتتحقق لولا انسكابات اللغة في اللاوعي.

وبها تبدأ امتدادات الروح واستثناءاتها وإبهاماتها.
وبها يتنائي الغيب، وتتكثف برازخه.
ويتعالي المستحيل.

وبها تنحط وضاعة التافه، ويتم تسييل الزمان، وتجميد المكان، وتسامي الواجد، ولا يكون تداني الموجود إلا بها.

في اللغة يحضر المرسل والمتلقي، الموجه والموجه، السيد والعبد، القاتل والضحية، الموت والولادة، والفعل الفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر.

وفي اللغة فقط يتبدل الإنسان، ويتغير، ولا اتهامات، أو محاكمات، أو إدانات، أو براءات.

هناك وفي اللغة متسع لما كان، ولما لم يكن، ولن يكون، أو سيكون، ولما بينها جميعاً.

فأي وسيلة اتصال هي ؟!
إنها الفكرة والمادة والروح والمعنى والشكل والمضمون، والأول والأخر والباقي والفاني.
بل هي الحاضر والمتخيل، وما قبلهما.

إنها السلطة الأبقى لضرورة خلق الإنسان، وقتله، وحذفه، وبنائه، وتدميره، وابقائه، وإقامته، ونفيه.
ولولا هذه السلطة اللغة لما كان للقوة، والعنف، والحب، والكراهية، والرغبة، والجريمة من قيمة.

فإذا غابت المفردة غاب الفعل ورده، وغاب المفهم، والفاهم، والفهم، والمفهوم ، وغاب المتحرك والساكن والمتيقظ.

وإذا حضرت اللغة، حضرت انحرافاتها، واستقاماتها، وتبدياتها، وترميزاتها، وتبطيناتها، وتجلياتها.
فهي لكل مجلس سيد، تميت الميت، وتحيي المصغي وتبعث الحضور، فيغيب الغائب وإن كان هو الأوضح وهو أول الحاضرين.

ومن أعمق ميزات اللغة كسلطة القدرة على التحرك اللامحدود، والمرونة، والتكيف، والتكييف، الحضور، والاختفاء، البدء، والانهاء، المد، والكف، الإماتة، والبعث، والحساب.

فهي الخالق والمخلوق، والحاكم، والمحكوم، والمؤلَه والمؤلِه.
لانها سلطة مركزية ولا مركزية، تستخدم كل أشكال الإدارات التي تمكنها من الكون الواعي واللاواع.

لكل ذلك فإن تعقيدات اللغة السلطة تنسحب على طبيعة التفكير والفكر الذي يسير الفرد والجماعة، الأمر الذي ينعكس وبوضوح على تطور الشعوب والأمم التي تخضع لملكية اللغة.

كما إن أقسى أنواع الفطام هو الفطام عن اللغة، ذلك لأن بدائل هذا الفطام تضطر الإنسان إلى تغيرات داخلية شاهقة لا يلمحها بذاته، وليس من السهولة عليه تتبعها، غير أن آثار هذا الفطام تظهر في أعماقه على شكل نتوآت نفسية وفكرية، وندوب وجراح في عدة محطات من حياته.

كما إن التحرر من سلطة لغة ما ليس بالأمر اليسير، ولا بمتناول أي كان من الراغبين، وأطول الإقامات هي الإقامة في سجن اللغة، تلك التي تكلف الإنسان حياته بطولها وتفاصيلها.

لذلك فإن تكلفة الانفلات والاعنتاق من هكذا سلطة قد يكون أشبه بالأمر المستحيل.

عمر سعيد / روائي و ناقد لبناني

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى