الروائي عمر سعيد يقرأ في لوحة “مواسم الطين” للفنانة التشكيلية ريتا كيروز
مواسم الطين
للتشكيلية اللبنانية ريتا كيروز
عمر سعيد : اللون أعمق مساحات الوعي الجواني فينا.
به نرى عوالمنا الداخلية بوضوح.
تتفلت منا معه قدرتنا على التفسير والتأويل، لكننا حتما وبلا أقل شك ندرك ونعي أن التزام الصمت هو خشوع الثرثرة على مشارف الدهشة.
ريتا كيروز، الفنانة التشكيلية اللبنانية، تصدمنا بوعيها المذهل لأعماقنا (أعماقها).
في هذا العمل الطيني بروحه وألوانه وموضوعه، تجترح ريتا التماهي الذي يصفع لا وعي المشاهدين بين دواخل المادة، ومكوناتها.
ملامح الخشب في خطوطها العامودية غير المستقيمة، والمسكونة ببذور الحياة التى لا تفنى، وإن أحاطت بها ملامح اللهب.
فاللهب أوضح ملامح الحياة، وجوهر فكرتها.
وهل من نور بلا نار؟!
وهل من نار بلا لهب ؟!
وهل من لهب بلا احتراق، أثثه له الطين بحضوره منذ أن قيل للكون كن فكان؟
على تماسف من كل ذلك، يتداخل طين الأرض بتلاشي زجاجية السماء.
وفي ثنائية تقدمت المشهدية بجرأة أعادت إلينا الفكرة، لنتأمل قبل أن نشعر.
مشهدية لم تمنعني من قراءة معكوسة لهذا العمل، فبدأتُ بها من العمق المتلاشي تفاصيلاً إلى حالة لا تحول بين الروح والمادة.
تلك الثنائية المادية أشبعتها كيروز بخرائط متشابكة في تداخلها عند الجزء الذي يقدم للجسد تساميه وروحانياته.
لتأتي لحظة الاتصال في الثنائية الآدمية خالدة.
ثنائية تثبت معنى الاتصال الحقيقي للطين وليس مفهومه التأويلي.
وإن بدت واضحة وحدة الكتلة فيها، بما تحمله من استقلال.
ثنائية ساوت بين الأرض والسماء، وجعلت تسامي الثانية من مِنَحِ الأولى.
فلا مطر لولا طين يجود.
ولا ثمار لولا مطر، يهطل في طين يعي معنى احتضان أشكال الألوهة.
ثنائية ما منعها داخلياً تخبطها وتشوشها الساعيان لاستهلاك الحياة بقسوة محيط ضاق بتكثفه عليها، إلى حد السكنة فيها، دون أن يبلغ إرادة منعها عن استعادة دورة الحياة والبدء من جديد.
فالجنس في هذه اللوحة إرادة تكاملية لكل مكونات هذا الكون.
إنه تأكيد على أن كل طارىء عابر، مهما اشتدت وطأته.
والجنس هطول ذكوري في الأنوثة التي تهطل بالحياة في أعماق حياة هذا الكوكب.
وإن غابت ملامح رد الفعل في وجهي العاشقين، إلا أن الفعل جعلها جلية بتوظيف ريتا لهذه اللحظة الثنائية المقدسة.
ذلك الفعل الذي سعت بتصويره المبدعة كيروز إلى التصدي لحالة التآكل التي تكاد تأتي على كل طين نحن منه وفيه، وتبعث الإنسان فيه من جديد.
إن تداخلات اللون التي جعلتها كيروز على تدرجات تخض كيان الناظر، هي استنكار للرتابة التي تلقي بثقلها على الإنسان والمحيط الذي تمثله ظروف المكان والزمان الذي اختزلته المبدعة كيروز بهذه اللوحة.
وما تلك التعرجات والانحناءات اليسيرة في مربعات الحدود اللونية إلا إشعارات عن اهتزازات داخلية، تنبىء بالحاجة إلى استكمال إرادة الطين في تجاوز تلك الرتابة، التي تغلبت عليها كيروز ببعث لقاء هذا الثنائي في اللونية التي خلقتها.
وقد وفقت في تصوير أطراف الثنائي السفلية المغروسة في طين الواقع، لتكثف قتامته ودكانة ظلاله وألوانه، تعبيراً عن غضب الحركة في الريشة التي أسست فيها قاعدة المشهد البنائية.
إنه عمل لا يحتمل إلا قراءة عامودية، وفقاً لاسترسال التكثف مع غوصنا في أعماقه كلما تماهى مع أعماقنا جميعاً نحن المشاهدين، لحظة كنا جميعاً ريتا كيروز، وقد كانتنا جميعاً، اثناء هطولها بالفكرة ألواناً وخطوطاً على قماش مخيلاتنا التي لم تتوقع مثل هذا الإبداع.
الف شكر لحصاد الحبر