أدب وفن

عازف البزق/قصة قصيرة /بقلم الروائي عمر سعيد

عازف البزق

قصة قصيرة
عند الضفة المقابلة لمحطة بليك دوزو، في اسطنبول، وعلى خاصرة مرمرا بارك الشمالية، يمتد زقاق يعبره المشاة المتنقلون بين مواقف الدلموش ومحطة المترو باص.

على رصيف ذلك الزقاق، تربع بعمره الثلاثيني، وقد شبك أسلاكاً بمكبر صوت صغير، طوقت وجهه حتى فمه.

يحتضن آلته الموسيقية.
يقبض بيسراه على أعلى عنقها الطويل، والريشة في يمينه، تقفز كفراش الربيع من وتر لآخر.
وعلى مقربة منه أمام البزق صندوق صغير، ترتفع من جهته الخلفية ورقة حوت كلمات بالتركية.

نزلت القرفصاء بجانبه، ورحت أتأمل ملامح وجهه أثناء العزف.
كان جبينه، يتقلص، ويتمدد..
لتنقبض أساريره في لحظة، كأن شيئاً يخزه تحت الجلد.

بعد أقل من دقيقة، بدأت أقف عند سبب ذلك.
فقد كان النغم يأتي أعرج.
قلت في نفسي: لعل هذا الخلل، قد تسبب به الزمن الموسيقى للمقطوعة التي يعزفها.

غير أن تلازم العرج وانقباض أسارير العازف، دفعاني إلى إطالة عنقي صوب أوتار البزق.
لأرى الوتر السفلي، يتدلى كما لو أنه ساق ياسمينة، طوحتها الريح.

أخرجت هاتفي.
فتحت على كاميرا غوغل للترجمة.
ثبتها على الورقة التي تنتصب في صندوق المال أمامه، فأتتني الترجمة:
” أعجز عن العزف بوتر مقطوع.
ساعدوني لأتم قطعتي الموسيقية.”

تذكرت أني توقفت قبل أيام داخل المول في مرمرة بارك، عند محل لبيع الادوات الموسيقية.

نهضت، وانطلقت جرياً باتجاه السوق.
كانت المسافة، والترجمة لطلب الأوتار، ومعرفة نوعيتها، وثمنها، والدفع ثم انتظار الفاتورة، قد تسببت في تأخير عودتي إلى حيث عازف البزق.

خرجت من المول مسرعاً، أجري صوب مجلسه.
من بعيد لمحت أن المكان قد خلا من صاحبه.

وقفت أجول البصر في الاتجاهات، لعلي ألمحه.
لكنه كان قد تلاشى في الزحام، وقد تلاشت معه تلك الموسيقا العرجاء، وسط صخب العابرين، وانشغالاتهم باتصالات هاتفية.

دسست الأوتار في حقيبة ظهري، والخيبة جواتي، ثم أكملت طريقي.

أمس.. كنت في الدلموش، وكعادتي بقيت أطيل عنقي صوب النوافذ بحثاً عن ملامح الأماكن التي أعبرها، لأطمئن أني في الاتجاه الصحيح، وهي عادة قديمة، ولدتها في طرقات الغربة المعقدة.

لفت انتباهي زند آلة بزق يرتفع بين أكتاف أحد المشاة، فوق رأسه.
أوقفت السائق، ونزلت أركض خلفه، وأنادي بالتركية: “هَي دوستم!” .. يا رجل!
حتى اقتربت منه.

أحس بملامسة يدي لحقيبة البزق في ظهره. التفت إلي، وقال : أڤيت! .. نعم

وأزال بالتفاتته كل حماسي الذي جعلني أجري خلفه كالطفل!
إذ لم يكن هو.

وضعت كفي على صدري، وأنا أقول:

  • ” سيزدن أوزور دليريم” إني أعتذر منك!
    ثم استدرت، ومشيت عكس اتجاهه، ألم خيبة أخرى.
    فلا زالت آلته بوتر ناقص، ولا زالت معزوفته عرجاء.
    وقد لا نلتقي مجدداً، وبالتالي قد لا يتم مقطوعته الموسيقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى