أدب وفن

هوزان كوركندي.. عاشقا و متصوفا…!.

بقلم : عبدالوهاب بيراني

الشعر كلمات و صور، بحث في العمق، رحلة في التأمل، و رسم متقن بالكلمات لصور تصر على البقاء في الذاكرة.

عبر مجموعة من القصائد الكردية و المترجمة للغة العربية للشاعر الكردي هوزان كوركندي يحاول المترجم الاستاذ مسعود داود خلق لغة شعرية جديدة، سيما و ان الترجمة و ان كانت جسرا لنقل المعرفة و الفكر فأنه يقف احيانا كثيرة عن نقل صورة الشعر، ربما يخذله او يخون النص الأصلي حسب التعبير الإيطالي، الا انه استطاع من خلال ترجمة متقنة ان ينقلنا إلى واحات الشعر و ظلال صورها الجميلة و يغوص في عمق المعنى و يجعل لها صوتا و صدى،
القصائد تمارس بوحها في برية جديدة، عارية من ثيابها و الشاعر ينتظرها انتظار العاشق..،
“ستأتين يوما /بأنامل ناعمة /و بغنج و دلال/سأوقظ ضفائر شعرك/… هكذا يخبرنا الشاعر هوزان كوركند عن عشيقته التي ربما لن تأتي ابدا، تتوالى الصور الشعرية عذبة و كأنه ينحت في حواف القلب مرايا جديدة تعكس الجمال الروحي للانسان و للطبيعة فها هو في مرابع الحب الندي يزرع كلماته هوى و عشقا كشاعر متصوف، حيث تظهر الأساليب الصوفية من غزل و ألم و خمرة، فيبدو التأثر واضحا بأثار الشعر الكردي الصوفي أمثال الجزيري و احمدي خاني و فقي تيران وصولا لمولانا جلال الدين الرومي و نكاد نسمع صدى كلماتهم و بوحهم في أكثر من نص فعلى شفاهها يغدو ثملا و عاجزا عن الكلام و يرتجف من شدة العشق و يعاني قسوة الحب و يتحول إلى عاشق مجنون يقاسي الاوجاع وهو أسير نظرة الحبيبة و ثمل برضاب شفاهها…
ولعل أبرز مايميز الشعر الكردي عن غيره هو ولعه التام بصناعة الصور الشعرية و ابتكارها و نقلها بأمانة.. فالشاعر يستوحي من ذاكرته أياما جميلة و ذكريات يحولها إلى لغة شاعرية و الى قصيدة ينشدها بكل فرح و وجع معا.. فمن غير الشعر يهدهد سرير الذكريات و يصطاد الفراشات على تخوم قريته (كوركند) وهو يحولها إلى معبد مقدس يؤدي طقوس العبادة و تراتيل العشق و الجنون في حضن “كبزي كيكان” المنفي في صمت الحقول و الأزلية..
صور الذاكرة تنزف الما و وجعا وهو يتذكر بلده الثاني “سري كانيه/راس العين” يتجول في شوارعها و ازقتها.. لا شيء سوى الخراب و الموت.. لتغدو المدينة ملحمة للألم و للبطولة.. يكتب نزوحه و نزفه، و وجعه الذي لا ينتهي و بتفاءل ثوري يعلن عن الامنيات و عن العودة مع سرب طيور من طيورها و ان كان الضباب يحجب الرؤية عن تلالها الشامخة و اشجارها العارية و حقول القمح المترامية التي تذرف سنابلها دموع العودة و الجوع، و بيوتها الكئيبة و شوارعها الخاوية تعلن عن خطوات و أقدام لن يصيبها الصدأ، وهو يعلن انه سيمشط عشبها و يروي زهور بيادرها بالدم.. الشاعر في وقفاته على ذكرياته و اطلال عشقه يعيدنا إلى زمن شعري و يتقارب معه في قضية البكاء على الاطلال، كيف لا؟ و المدينة كحروف تائهة و كخيوط من ضوء لا يزال يحاول كتابتها و نسجها من جديد..
قضايا العشق و الوطن و الأرض و الإنسان هي ذات الشاعر كوركندي و التزامه واضح و جلي و إخلاصه عميق لأقانيم العشق التي تتوحد في بؤرة مركزية هي الوطن حيث هو الحب و الجمال و المكان، و يغدو الوطن فردوسه و حبيبته و المرأة التي تظهر كثيرا في صوره الشعرية ماهي إلا فتاته و محبوبته الجميلة التي تغرقه في بحر عينيها و تحرك مشاعره ليصبح وترا يعزف سيمفونية عشق، و يمضي في براري قريته ثملا بكؤوس من رضاب شفتيها… فيظهر الوطن /المرأة في أحلامه و خيالاته كمملكة للحب يعيد إليها بهائها و يزرع قامتها بالزهر، يتدفئ بنيران عشقها كل ليلة، و يخاطب روحه، وكيف ان العمر مضى و يخشى ان يطول به الغياب، فتتيبس يده او اصابعه.. كيف سيصافح المدينة.. كيف سيهدي اصابعه لجسدها..؟ و اي جنون سيتسع له عقله وهو يغفو في أمسية شفاهها.. اي جنون؟ هكذا يتساءل الشاعر وهو يعبر عن حزنه و انكسار قلبه في وسط عتمة كطفل صغير، جائع..في عمق تلك الاحاسيس يتذكر كيف كانت الشفاه ترتجف و نهدي الحبيبة يزين صدرها ككوكبين من ضوء و خمر.. و يضيء في سماء العشق قوافل من نجوم تعلن نهاية ليلة صامتة..
النصوص المترجمة تأتي كمختارات عن العشق و الهوى من دواوين الشاعر، تم اختيارها بعناية لتكون باقة من شعر الحب و شعر العشق و التصوف فلا نكاد نمضي من قصيدة إلى أخرى الا و مفردات قاموس العاشقين و التصوف تظهر مضيئة بنيران العشق (نبضات /عشق/خمرة معتقة / سكر /كؤوس /شفاه/رضاب/نهود /جنون /ارتجاف/البحث عن الذات /اطوف/الضياع /فيضان العشق /الدمع / مفردات ازلية في دواوين الشعر الصوفي، يلجأ الشاعر إلى الاستناد عليها عبر تناصات عديدة استمدها من جوهر فضاءات نصوص الاقدمين و في إشارات واضحة اعتمدت الجسد و الروح إزاء جمال الله و جمال المرأة و روحها عبر ابتهالات مرفقة بالشكوى و الحنين و اسقاطات مباشرة او متماهية في الوطن عبر قريته الصغيرة (كركند) الغافية عند أقدام تلالها الشامخة… او مدينته (سري كانيه) الغائبة الحاضرة، النازفة كنسغ اشجارها التي تيتمت حينما غادرها خابورها، و فاضت العين بدمع الروح و اسرت نحو نزوح.. و معراجها قريب..
هكذا هو الشعر، لغة تصويرية مكثفة يكتنفها الغموض وهي تسري بشفافية الروح و عبق المعراج..

عبدالوهاب بيراني/ شاعر و ناقد
سوريا
20/3/2020

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى