مقابلات

المفكر اللبناني محمود حيدر:الكورونا أشبه بكائن ميتافيزيقي انفلت من حسابات العقل العلمي

بيروت-إسماعيل فقيه:
ماذا يقول الفكر للعلم، وهل يمكن للفلسفة أن تبني مناخ معرفة جديدة،في زمن جديد تبرز فيه علامات نهاية الحياة، وفيروس كورونا خير دليل على بشرى غير سارة للبشرية. ماذا يقول الكاتب المفكر الباحث في الفلسفة والالهيات محمود حيدر عن الفكر وقدرة الفكر والفلسفة على تعقّب الزمن وما يقدمه من علم ومعرفة جديدة؟

  • لفتني ما كتبته على صفحتك الألكترونية وهي على ما يبدو سلسلة مقالات تحت عنوان “علم الجوائح”، ما الذي قصدت قوله وما هو الرابط بين جائحة كورونا ومصير الحضارة الإنسانية المعاصرة؟
  • تداعت لي فكرة الكتابة عن “علم الجوائح” بعدما صار وباء كورونا جائحة عالمية. ثم لمَّا عظُم الجدل حولها، وخصوصاً حول ما إنْ كان منشؤها من نفس الطبيعة او من فعل بشر، تضاعف همّ الفكرة لديّْ. ومما استثار أسئلة غير مسبوقة ان دولاً ومجتمعات لم تقدر رغم حداثتها الفائضة على فك لغز الجائحة، أو احتواء تداعياتها المهلكة.. فقد وجدت هذه الدول والمجتمعات نفسها وجهاً لوجه مع كائن غير عادي فاجأها على غير توقع من علمائها وفلاسفتها ومفكريها. بل أستطيع القول من وجهة نظر فلسفية ان كوفيد 19 بدا وكأنه “كائن فوق ميتافيزيقي” لأنه جاء من خارج حسبان العقل العلمي، ثم تجاوزت آثاره إمكانات هذا العلم، حيث لم يعد أمام العلماء والسلطات الصحية سوى التحايل عليه للإفلات من براثنه. زد على ذلك، ان أثر الكورونا يأخذ اليوم سعة كونية على نحو لم تشهد البشرية مثيلاً له. لذا لا يقتصر علم الجوائح في زمن الحداثة الفائضة، على استقراء وتحليل ما ينطوي عليه نظام الطبيعة من حوادث لا تزال عصيَّة على فهم مواقيتها كالزلازل والأعاصير والأوبئة، بل هو محاولة معرفية تشتمل على مراجعة كل ما انجزه الانسان من معارف وعلوم على مدى قرون طويلة.
  • كأنك تقول ان العلم أخفق في الامتحان أمام هذه الجائحة، ولكن ماذا بعد؟
  • ما قصدت قوله بالتحديد أن علم الكونيات/ على عظيم ما قدمه للبشرية/ بدا مرعوباً من كائن لا مرئي يجتاحه بلا هوادة… معه تبدَّلت الأحوال جملة، وصار العالم الذي كنَّاه من قبل غير العالم الذي نحن فيه الآن، والناس -كل الناس- باتوا على انذهال ما كان قبله انذهال. حتى ان علماء الكونيات لم يعد أمامهم – على ما يبدو- سوى التساؤل عما لو أن يداً خفية حطّت بغتة على وجه الأرض، وأخفت عن ساكنيها سرّ غزوتها… تلك هي الصورة التي يمكن ان تختصر الحالة الذهنية والنفسية للإنسانية المسكونة بهلع وجودي لم تعهده في حياتها. بل يمكنني القول انه ربما للمرة الأولى في تاريخها تجد البشرية نفسها أمام سؤال الفناء والبقاء. طبعاً هذا السؤال المثير، كانت سألته الحضارات عندما كانت تخوض حروبها العظمى، كما سألته الفلسفة والعلوم الإنسانية كافة على مرِّ التاريخ، إلا أنه ظل سؤالاً افتراضياً. أما اليوم فقد أصبح سؤال البقاء واقعياً لأنه يداهم الفكر والجسد والنفس بلا هوادة. لذلك فإن الإجابة عليه أمر لا مفر منه. لو نظرنا الى المشهد الذي تعيشه البشرية هذه الأيام، لبدا لنا كيف تحولت حياتها الحضارية وحَيَواتِ أفرادها، على نشأة غير معهودة. كل شيء توقفت سيرورته حتى أوشك العالم كله على المبيت داخل كهفه البيولوجي، ولا يعرف كيف سيكون الحال لو توقف الفكر البشري عن نشاطه، وصار يشعر كما لو انه على قاب قوسين أو أدنى من حافة القبر. أما بخصوص السؤال عما إذا كان الإنسان الحديث سيستفيد من هذا الدرس القاسي، فمن البديهي ان هذه الجائحة أحدثت ما يشبه الاضطراب في التفكير بالمصائب. وما لا بد من الإلفات إليه هنا، أن اللحظة التي يجب أن يختلي فيها العقل بنفسه وتحديداً العقل الغربي هي لحظة لم تَحن بعد. ذلك ان المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها وربما ستبقى كذلك حتى بعد اضمحلال الجائحة.
  • يبدو من كلامكم أن العقل الذي مجَّدته الحداثة بات الآن على المحك.. هل يعني هذا أن سؤال العقلانية كما يطرح في الغرب اليوم، لم يعد صالحاً لإدارة شؤون الحضارة البشرية؟
  • هذا سؤال في غاية الأهمية. والحقيقة أنني لم أكن أتصور اللحظة التي يجدُ فيها العقل الحديث نفسَه أمام محاسبة نفسِه كمثل هذه اللحظة. ربما للمرة الاولى مذ تسيّد هذا العقل عرش التنوير في اوروبا قبل نحو خمسة قرون راح اليوم يستشعر خوفاً غير مسبوق على المصير. لقد بدا كأن خطباً جللاً يدعوه الى الوقوف على خلل جوهري في تكوينه. غالب الظن ان جائحة كورونا ستنبِّه كثيرين ممن سوَّقوا ونظَّروا للعقل المحض الى الخلل الجوهري في أصل تكوينه الفلسفي عندما أشاح ببصره عن الأصل الذي جاءت منه الموجودات. لقد ظن هذا العقل انه يستطيع بواسطة العلم أن يحيط بكل شيء فيه. وقد ظهر حينئذٍ، كما لو انه يثلم نفسه بملء مشيئته، من اجل ان يأنس بأمان الى دنيا الممكنات وسحر ألوانها المبهرة. ربما لم يكن يدري انه بفعلته تلك، سوف يدفع نفسَه دفعاً الى كهف العزلة. ولمَّا حسِبَ انه أفلح بالميثاق الأعظم الذي سيتيح له فك لغز الوجود من خلال ثورته العلمية، وقع في تيه الانانية وجنون العظمة.. لقد اخذته العزَّة بـ “أناه” حتى ظن أنه الإله الفائق الذكاء، الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا وقف على سرًها.. أو انه الكائن الفريد المكتفي بذاته، وليس له بعدئذٍ من حاجة الى من يسد نقصه متى استشعر النقص، ولا الى من يمده بالإغتناء متى استشعر الفقر… منذ جناية ارسطو الاولى الى جنايات الوَرَثة المحدثين، من الذين استطابوا الاستراحة الابدية في دنيا المحسوسات اتخذت هجرة العقل دربة غلوائها حتى استحالت “جائحة” تجري على غير هدى وسط عالم مسكون بالهلع…وليس من شك أن العقل الحديث بهذه الصفات قد تحول الى مصدر ينتج التشاؤم والقلق أكثر مما يوفر للإنسان سعادته المنشودة.
  • أشعر كأنك ذهبت بعيداً في دمِّ العقل والعقلانية، هل توضح لنا ما تقصده؟
  • أشكركم على هذا السؤال الإستدراكي. ان ما أردت قوله لا يعني إنقاصاً من جلال العقل وجمال ما يختزنه من الحكمة ومحاسن التدبير.. ما قصدته على وجه الضبط – هو الكيفية التي استُعمِل فيها العقل لإعمار الحضارة الحديثة.. بطبيعة الحال، فإن نقد العقل الأداتي للحداثة ليس أمراً مستجداً. فما ذهبتُ إليه لتبيين المعاثر التي استحكمت بالعقل الغربي الحديث له ما يؤيِّده في التراث الفلسفي النقدي في الغرب. وللمزيد من الإيضاح أقول، ان العقل في أصل نشأته وعلَّةِ وجوده، هو أول الموجودات وأشرفها. بل يبقى العقل الذي ينفرد به الكائن الآدمي، هو السر الذي لا ينفك مصدر حيَرة لحامِلهِ منذ اول الخلق.. لكن محل الإشكال هنا، هو بالتحديد ما رسمه العقل اليوناني، وبخاصةٍ ما وضعه أرسطو من تأسيسات دنيوية للميتافيزيقا، حيث شكلت الفلسفة الحديثة تتويجاً صارخاً لها. أستطيع القول بناء على المنعطف الأرسطي واستحواذه على نظام التفكير البشري أن الحضارة المعاصرة بلغت الآن نقطة النهاية في “ماراثون العقل المنفصل” الذي افتتحه الإغريق، وختمته الحداثة. لقد بذلت الفلسفة مذ ولدت، والى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته)، والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع).. لكنها ستنتهي الى معضلة العجز عن الوصل بينهما باعتبارهما يعودان الى أصل واحد.. كانت أن العقل قاصرٌ عن اجتياز دنيا المقولات العشر، ولا ينبغي لهذا العقل معرفة ما وراء عالم الحس، لأنها معرفة مستحيلة. وعلى هذا النحو كان لأهل الفلسفة الاولى وورثتها من الحداثيين، ان يريحوا العقل من الاشنغال بالمبدأ المؤسِّس للوجود ثم ليستغرقوا في لجّة لا قاع لها من الانهمام والعناية بالموجودات الفانية… هذا ما نلقّاه الآن من معاثر الحضارة الحديثة، لمّا غزاها الكورونا وهي في ذروة استعلائها واعتزازها بذاتها. اننا بالفعل أمام خيبة كبرى تدعونا الى وصف الحداثة الفائضة، بأنها المشهد الاخير لحضارة العقل الحسير ومعاثره الكبرى؟..
  • ماذا تعني بعبارة “العقل الحسير”، الذي وصفت به الحداثة، وكأنك تريد أن تصدر حكماً على ما آلت إليه تجربتها على مدى خمسة قرون كاملة؟
  • أعني بالعقل الحسير، عقلَ الحداثة وما بعد الحداثة. أي العقل الذي أشعرته جائحة كورونا بقصوره الشديد عن التصدي السريع لداء قد يقتلعها من جذورها. بهذا المعنى أستطيع القول ان العقل الحسير هو الذي يعيش الحسرة حيال حادث كوني لم يدخل في حساباته ولم يستطع احتواءه. لكن التمظهر الأشد قسوة لغفلة هذا العقل الذي استراحت إليه الحداثة قروناً طويلة، هو ان “دابَّة الارض” التي ظهرت على حين بغتة، سوف تغلب دابة العقل المكتفي بذكائه… أشير هنا إلى أن الحكماء والعرفاء يرون ان العقل الذي يستغرق في دنيا معاشه هو نفسه العقل الذي يتحسَّر على ما كان أعرض عنه. أي الشيء الذي يشكل جوهره ومعناه وعلةُ كماله كموجود ينبغي أن يكون خليفة لله وسيداً على الكون. بل إنني أذهب إلى القول ان من أظهر الجنايات التي اقترفها العقل الحديث، اختراعُه لمذهبٍ حمّله اسمه ليكون ولياً على حياة الانسانية المعاصرة ومرشداً لها.. يدَّعي اصحاب العقلانية ان لديهم حُزمة كاملة من الإجابات الكبرى، على حُزمةٍ كاملةٍ من الاسئلة الكبرى: من السؤال لماذا كان الوجود وليس العدم، الى الاستفهام عن الكيفيات المناسبة لإدارة المجتمع والدولة وحركة التاريخ… وعليه فقد عُدّت النزعة العقلانية وفق الصورة التي ظهرت بها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في الغرب، نسَقاً ميتافيزيقياً ناجزاً.. بل إنها عوملت في أكثر المواضع والأحيان، كبديل من الدين… وللإيضاح أكثر أقول أن من مفارقات العقلانية أنها تعاملت مع العلم كموضوع من مواضيع نشاطها الفكري. وضمن هذا المنحى تم الاستيلاء على مقاليد الثورة العلمية وتوظيفها لخدمة ايديولوجيتها الحاكمة على حضارة الحداثة برمتها. على هذا الاساس سنرى كيف اسَّست العقلانية لسيادتها عبر قاعدتين ستمهِّدان معاً لانكشاف العقل الحديث وانفضاح معاثره الكبرى:
    *القاعدة الاولى: إعتقاد العقلانية بأن العلم و التفكير العلمي قادران لوحدهما ان يحدِّدا ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وان كل شيء يجب ان يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، او اي فرع آخر من فروع العلم.. اما امور مثل الايمان بالغيب والنزعات الروحية، بل وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والاخلاق، فقد اختزلتها النظرة العقلانية الى مجرد متغيِّرات في كيمياء الدماغ الذي يتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو- بيولوجية المرتبطة بتطور الكائن البشري…
  • القاعدة الثانية: تقوم على الإعتقاد بأن الغاية من تحصيل المعارف هي التحكُّم بالعالم الخارجي والهيمنة المطلقة على الطبيعة. وبذلك يصبح همُّ الغرب مركوزاً في العثور على الطريق الامثل لتحقيق هيمنته وإشباع جوعه الضاري للثروة والتكاثر.. ولو حلّ الفساد في سماء أهل الارض، وفي بحرهم وبرِّهم وما تحت الثرى..
  • هل يدل هذا برأيكم على ان العقلانية بصيغتها الليبرالية المستحدثة بلغت حدَّ “الجنون” حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟
    • هذا هو بالتحديد السؤال الذي يشكل الهمُّ الأقصى لنقَّاد السلوك الليبرالي. المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج معرفةً على صورتها.. إلا أنها بدت صورة مضطربة ومشوَّهة كما أفصحت الذهنية الغربية المذهولة اليوم من هول الجائحة وتداعياتها.
  • لكن ألا ترى معي ان التقنيات الهائلة التي أنتجتها الحداثة مكّنت الغرب من السيطرة والتفوق لما انتصر لمبدأ العقل العلمي؟
  • تبدو الصورة في الظاهر على نحو ما أوردتم في السؤال. وهذا ما أخذت الأفكار الحديثة وصدّقته سواء في الغرب أو في بلادنا العربية والاسلامية. غير أن الحقيقة التي يمكن تدبّرها بالمعاينة هي أن الغرب ابتدأ بتقديس العقل، ثم انتهى الى تقديس الشيء الذي صنّعه العقل.. لنتصور اليوم أي مآل صارت إليه الأمور… ان الشيء الذي صنّعه العقل التقني راح ينفلت من عقاله، وينشر على الملأ كله فزعه الأكبر. ليس ثمة ما يدعو الى الاستغراب، ان الحداثة انتقلت بلا رويَّة من تقديس العقل الى تقديس الشيء الذي صنعه العقل. وهذه الفَرَضية موصولة بالتساؤل عن حضارة استهلت رحلتها بعبادة العقل المحض، ثم هوت الى عبادة الفرد، ثم لتنتهي الى عبادة الآلة؟.. مفكرو الغرب من الذين آلَمَهُم المآل وشرعوا بنقد الذات، راحوا يكشفون عن رابط وطيد بين ثلاث صُوَر للإنسان الحديث: صورة الانسان المفكر، وصورة الإنسان الصانع، وصورة الإنسان الاقتصادي. لنقرأ الصوَر الثلاث بشيء من التفصيل: الإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادراً على الهذيان والحُمق. والانسان الصانع، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنية، كان قادراً منذ بدايات الإنسانية على انتاج أساطير لا تحصى. أما الانسان الاقتصادي الذي يُعرف انطلاقاً من مصلحته الخاصة، فهو انسان الاستهلاك، أو إنسان اللعب والإنفاق والتبذير. هذه الخصائص المتناقضة تبدو متداخلة بين بعضها البعض. يحضرني في هذا الصدد ما يقوله المفكر الفرنسي إدغار موران في سياق مطالعاته النقدية لما سماه سلوكيات البربرية الأوروبية. أن ترياق “الهذيان” و”الحمق” يمكث في أعماق العقل الحديث. هذا العقل الذي مضى الى عقلنة ما هو غير منطقي وغير أخلاقي وغير معقول. وعليه صار بإمكان العقلنة برأيه أن تخدم الهوى، وتقود الى الهذيان. من هنا أستطيع القول ان مآلات الحداثة التقنية في هذا السياق لا تبدو إلا كمحصول لعقلٍ استبد به الغلو، فانزاح عن غايته وانحدر صوب التشييئ المرِّوع للإنسانية المعاصرة. هذا هو بالضبط ما أوْقَدَ حماسة هايدغر الى نقد ما جَنَتْهُ التقنية على الإنسان الحديث. لكن القضية عنده تتعدى السخط على مظاهر التقنية وأعراضها لتطاول طبقاتها الخفية والعميقة.
  • يقال إن الجائحة أطلقت رصاصة الرحمة على العولمة التي بشَّرت بتحويل العالم إلى قرية صغيرة وإزالة الحدود بين الدول، لكن مع الجائحة الجديدة تبددت الصورة وأصبح العالم جزراً منعزلة ومنغلقة على ذاتها.. ما هو تعليقكم؟
    • نعم هذا صحيح ولا يدعو الى الشك. لكن جائحة كورونا في الوقت الذي أقامت الحد على العولمة الليبرالية وزلزلت أركانها، أطلقت عولمة من نوع جديد. وهذا هو السؤال الذي أخذ يعصف بحلقات التفكير على نطاق العالم كله. لقد انتهت العولمة بصيغتها النيوليبرالية من قبل ان تحكم عليها جائحة كورونا بالسقوط المبرم. لكن اليوم تبدو البشرية أمام أفق مفتوح على تغير هائل تجد نفسها مجبورة عليه. وهذا أمرٌ عادي في قوانين فلسفة التاريخ. حيث نجد أن الطبيعة الصامتة أو الخفية تتدخل أحياناً وعلى حين بغتة في المصير البشري، وتفرض على أهل الأرض نمط حياة ما كان ليخطر على بال إنسان.
      من البيِّن ان الحداثة بنسختها النيوليبرالية عندما استشعرت مأزقها الأصلي، أي البحث الشاقّ عن بَدْءٍ جديد، راحت تحثُّ السير نحو انعطافة تمنحها القدرة على ترميم صدوعها، وإعادة تشكيل العالم الجديد طبقاً لأغراضها. وهكذا وجدت في “العولمة” ضالّتها الكبرى لتعثر على هذه الانعطافة. ألقت بجميع أثقالها داخل شبكة عنكبوتية من الأنباء والمعلومات والصور والرموز، وحوَّلتها إلى منظومة للتحكم والسيطرة. استعملت النيوليبرالية منظومتها المستحدثة بغلوّ صارخٍ، وراحت تزيل الستر عن الأصل الذي جاءت منه، ثم لترمي به في العراء. الميديا العابرة لكل الحدود التي أطلقتها العولمة بقيادة أميركا الذي أطلقته الحداثة الفائضة، من أجل ان تهيمن على العقول والمشاعر، سيكون له ارتدادات انقلابية على منبتها الأصلي. ظنَّت أنها بتوسيط الميديا تستطيع أن تبشِّر العالم كله بمشروعها الإنقاذي. ثم انبرت تقنع البشرية بأن روح الغرب هي روح التاريخ الانساني كله، وأن كل شيء في العالم الحديث بات رهن قِيَمِها وأحكامها. أما حاصل التجربة العولمية كان في جانب أساسي منه كارثياً على كل صعيد. وليس انتشار المعامل الجرثومية والبيولوجية فضلاً عن النووية، سوى التعبير الصريح عن الكون المفتوح على الجوائح الظاهرة والخفية. فلو حَسِبَت حكومات الحداثة ما ستؤول اليه أحوالها لحظة انفجار ثورة الاتصالات، لانعطفت عن مسارها واجْتَنَبت سوء الخاتمة. وبمحض إرادتها أطلقت الحداثة الفائضة عن طريق الميديا كمّاً ضخماً مما اختزنته على مدى قرون من قيم ومعارف وأسرار. لقد أمست التلفزة الكونية – على سبيل المثال – معادلاً تكنولوجياً للإيديولوجيات الليبرالية فقد باتت أشبه بتقنية أسطورية تستند إلى جماهير عريضة، تتكاثر كلما تطور سلطانها المعنوي. لهذه الغاية سعت مراكز التحكم بعالم الميديا الى بثِّ كل ما يشجع على القبول الأعمى بالمنتج الأثيري. وهذا بالضبط ما كان لاحظه الفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي في بداية التسعينيات، لمّا بيّن أن فلسفة الإعلام في الغرب تنطوي على تحريض دائم وحاسم من أجل تجنيد المشاهدين بالإغراء، ودعوة إلى الغوغائية والخمول، والتوجه نحو رأي عام تتلاعب به الدعاية والإعلانات. أراد غارودي ان ينبِّه الى أن التلفزيون نفسه لا يقصّ حكاية التاريخ، ولكنه يصنعها بالتلاعب بها. بمعنى أنه يستسلم إلى انحرافات السوق، وإلى تهديم كل روح ساعية الى النقد الخلاَّق، وكل فكر يشعر بالمسؤولية. ولكي نستدل على هذه الأحكام حيال الميديا ووسائل التواصل، أنظر كيف تتم الآن تغطية تداعيات جائحة كورونا على كل صعيد. أوليست أخبار هذا الفيروس في كثيرٍ من الأحيان، تبدو أشد قسوة على المواطن العالمي من الفايروس نفسه على المستويات النفسية والاجتماعية وحتى العلاقات بين الدول؟

د. محمود حيدر
مفكر لبناني وأستاذ محاضر في الفلسفة والإلهيات.. ومستشار علمي لعدد من المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية في لبنان والخارج.

  • رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة- لبنان
  • مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب
  • له خمسة وعشرون كتاباً في الفلسفة والفكر السياسي والنقد الأدبي والتصوف النظري.
    له أيضاً خمسة كتب بالفرنسية والإنكليزية.

*حوار: الشاعر اسماعيل فقيه

*نقلا عن موقع THEasiaN/Arab

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى