أدب وفن

نظرةٌ في حَقِيقَةِ “الخَيْبَة السِّياسيَّةِ” في لبنان

الدكتور وجيه فانوس

 (رئيس ندوة العمل الوطني)

لعلَّهُ، من غير المُنصِفِ، التَّفكير في أنَّ “خيبة الأمل”، مِنَ الحَياةِ السِّياسِيَّةِ العامَّةِ، الحاصِلَةِ لَدى المُجْتَمَعِ في لُبنان، ليست سوى نتيجةً لِما يُمْكِنُ أنْ يكونَ مِنْ تناقضٍ بينَ ما هُوَ “سَيْرُ الأمورِ”، عَبْرَ الفاعِلِيَّةِ السِّياسيَّةِ، ومفهومِ “الصَّالحِ العام”، كما تراهُ كلُّ مجموعةٍ أو فردٍ من اللُّبنانيين.

واقِعُ الحالِ، إنَّ، معظم النَّاسِ، في لبنان، قَدْ لا يتمكَّنونَ مِنْ تَقْديمِ تَحديدٍ واضِحٍ وعمليٍّ لِما لا يُريدُونَهُ، أو لا يَرْتَضونَهُ، مِن الأمور  العامَّة؛ أذ غالبيَّتهم قد لا تَمْلِكُ معرفةً واضحةً عن قضايا هذا المُرادِ ومشاكِلِهِ وما المُحْتَمَلِ مِن تَطَوُراتِ أحوالِهِ مِن عقبات. ومِنْ هُنا، فهؤلاءِ يَشْعرونَ، حُكْماً، بِخَيْبَةِ أَمَلٍ، عندما يَجدونَ أنَّ وَضْعَ بَلَدِهِم وَصَلَ إلى ما هو فِيهِ حالِيَّاً. إنَّ الفَيْصَلَ العمليَّ، في كلِّ هذا، هُوَ “هَلْ لدى هؤلاءِ المُحْبَطِينَ والمُتْرَعِينَ خَيْبَةً، أيَّ إحساسٍ حَقيقيٍّ بالتَّصَّوُّرِ الواقعيِّ أو التَّشَكُّلِ العَمَلِيِّ المَلْمُوسِ الذي يَتَمَنُّونَ أنْ يكونَ حالُهم في بَلَدِهِم عليهِ؟”.

إنَّ النَّاس، عامَّةً، لبنانيين كانوا أَمْ سوى ذلك، غالباً ما يشعرونَ بخيبةِ الأملِ، حتَّى عندما لا يكون واضحاً في أذهانِهِم البديلُ الذي كانوا يُفَضِّلونَهُ على الواقِعِ الذي يُعاينونَ؛ ومِن هنا، فإنَّ خيبةَ الأملِ السِّياسيَّةِ، تَظَلُّ فاعِلَةً في حياةِ النَّاسِ؛ ولَعَلَّ في هذا، ما يُشيرُ إلى حتميَّةٍ لهذهِ الفاعِلِيَّةِ، تَرتَبِطُ بالقيودِ المَعْرِفِيَّةِ للنَّاسِ، كما تَنْتُجُ عنِ الحدودِ التي تَنشأُ مِن داخلِ الفِعلِ السِّياسي.

قد يكون من المفيد، التَّوقٌّف مَلِيَّاً، في هذا المجال، عند مقولة “الصَّالح العام”؛ إذ رغم شيوعها بين النَّاس، واحتلالها ما يشكِّل نقاط الارتكاز في معظم الأدبيَّات السِّياسيَّة، فإنها تبقى موضوعاً خلافيَّاً يَصْعُبُ التَّوافقُ الفِعليِّ على تحديده، بين أهل السِّياسة. واقعُ الحالِ، فإنَّ لكلِّ سياسيٍّ، أو مجموعة متضامنة فيما بينها من السِّياسيين، في لبنان، مفهومه الخاص لِما يكون التَّعارُفُ عليهِ، فيما بينهم، بـ”الصَّالح العام”؛ وكأنَّ الحال ههنا، خَلْطٌ، استنسابيٌّ مَصْلَحِيٌّ مُرْعِبٌ مفهومِيَّاً، بين ما هو “وطنيٌّ”، لا مندوحةَ مِن التَّوافقِ عليهِ بين جميع ناسِ الوطنِ؛ أمَّا  ما هو “سياسيٌّ”، فينحصرُ الاختلافُ فيهِ، بينَ أهلِ الوطنِ وناسِهِ، ضمنَ مفاهيم اجتهادِ كلٍّ منهُم في خِدْمَةِ ما هو وطنيِّ وَطُرُقِ تحقيقه. يقعُ، ههنا، مَكْمَنُ مأساة السِّياسَةِ، في لبنان؛ ومن هنا، تنمو بذرة أزمةُ خيبةِ الأملِ مِن الحياةِ السِّياسيَّةِ العامّة لدى المجتمع في لبنان.

تتجسَّدُ الفاعِلِيَّةُ التَّكوينيَّةُ لـ”الخيبة”، حينَ يُنْظُرَ إلى ما هو “سياسيٌّ”، على أنَّهُ “وطنيُّ”؛ فَتُصْبِحُ حقيقةُ ما هو “وطنيٌّ”، واقعةً تحتَ ضغطِ ما هو “سياسيِّ” والسُّلطةِ التي بيد أصحابه؛ وفي هذا الحال، يتلاشى “الوطنِيُّ” أمام طغيانٍ جارفٍ لِما هو “سياسي”. ولعلَّ ما يؤدِّي إلى هذا التَّعارُضِ المأساويِّ، أنَّ مفاهيم معظم النَّاس، في لبنان، عن الكيفيَّةِ التي يجب أن تكون عليها المفاهيم والقضايا الوطنيَّة، من جهة، وتلك السِّياسيَّةِ، من جهة أخرى، غالبًا ما تكون غامضة أو غير كاملة؛ فتصبح تالِياً، غير متماسكة فيما بينها. وهذه هي حقيقة الرُّؤية إلى السِّياسة ومجالات التَّعاملِ معها ومن خلالها، عند غالبيَّةٍ، لا بأس بها وبسطوتِها مِن أهلِ السِّياسةِ، في لبنان، لها رؤيتها للمُثُل السِّياسيَّة.  يعود الأمر، برمَّته، إلى انحياز كثير من أهل السِّياسة إلى الجانب العملانيِّ، أو التنفيذي المباشر، من فاعليَّة وجودهم، متغاضين عن أساسيَّة التَّعمُّق في إدراك الجوهر الوطنيَّ للمفاهيم والقيم السياسية التي يجب أن تنبثق منها عملانيَّتهم ، فتكون السياسة، في هذا الحال، غير ذات صلة أو ببساطة مملة ولا تستحق أي جهد فكري.

مِن المهمِّ التَّفريق، ههنا، بين مَن يتعاطونَ السِّياسةَ، مِن اللُّبنانيين، بعملانِيَّةٍ مباشرةٍ، عبر ما يمتلكونه من سُلطاتٍ تقريريَّةٍ وتنفيذيَّةٍ، من جِهَةٍ؛ والأكاديميينَ والمُنظِّرينَ السِّياسيِّن وعلماء السَّياسة، من جهة أُخْرى. إنَّ ما يجب أن يميز أصحابُ المجموعة الثَّانية، هؤلاء، من “السِّياسيين العملانيين”، أنَّ هؤلاء الأكاديميينَ والمُنظِّرينَ السِّياسيِّن وعلماء السَّياسة، بِحُكْمِ الانحصارِ الأساسِ لفاعليَّتهم في المجال التَّنْظِيري، يجدون أنفسهم في وضع أفضل نسبيًا، وأكثر استعدادًا، لصَرْفِ الوقتِ في التَّفكير في تصوُّرهم للمثلِ الأعلى السِّياسيِّ، كما يكونون، عادةً، أكثرَ ميلًا إلى القلقِ بشأن ضمانِ أنَّ ما يرونَ فيهِ “الصَّالحَ العام”، سيكونُ أشدَّ تماسُكاً وأقربَ إلى الخُلُوٌّ من الزَّيغِ؛ مِمَّا قد يأخذ به مَن يتعاطون السِّياسةِ، من اللُّبنانيين، بعملانِيَّةٍ مباشرة. ومع هذا، فإنَّه من ضرورات الموضوعيَّة البحثِيَّة، تبيانُ أنَّه قد لا يكون من الواضح، حقَّاً،  أنَّ أهل التَّنظير هؤلاء، هم أفضل حالاً بكثيرٍ، في هذا المسعى، مِن سواهم. إنَّ في ما يواجِهُ، بعض المنَظِّرين السِّياسيين، في لبنان،َ مِنْ  مشاكل الغموض وعدم الاتِّساق ووهنِ الاكتمال في المجالات المعرفيِّةِ أو المفهوميَّةِ، التي قد تكتنف ما يشتغلون عليه من  “المَثلِ الأعلى السِّياسيِّ”؛ وما هذا سوى نتيجةً حتميَّةً للقيود المعرفيَّة، التي لا مفرَّ منها، والتي تواجه جميع البشر، خاصةً في مجالات الأسئلة المعياريَّة التَّأسيسيَّة المركَّبة.

إنَّ النَّاسَ، فيما يرى إليه، عالِمُ الاجتماعِ والخبيرُ الاقتصاديُّ والسِّياسيُّ الألمانيُّ، ماكس وَبِرْ Max Weber، بحاجةٍ إلى أنْ يكونوا على فَهمٍ جَلِيٍّ بِأنَّ ما قَدْ يَقومونَ بِهِ، أو هُم يَسعونَ إلى تحقيقِهِ، مِنَ الأمورِ المُشترَكَةِ بينهم، ذاتِ التَّوجُّهِ القِيمِيِّ؛ فإنَّ هذا التَّوَجُّهُ، في جَوْهَرِهِ، هُوَ تَوَجُّهٌ اجتهاديٌّ. ولذا، فإنْ كانَ قيامُهُم هذا، سينهَضُ على قِيادةٍ مشترَكةٍ يتقاسمونَها، فإنَّ عَلَيهم، أساساً، أنْ يَتبَصَّروا أنَّ طبيعةَ وجودِ هذا الاشتراكِ، فيما بينهم، تَنْهضُ على مبادئ ورُؤىً، مُتعدِّدةٍ، بِمدى تَعدُّدِهِم، ومتباينةٍ  بأطوارِ تبايُنِهِم؛ إلى دَرَجَةٍ قد يستحيلُ معها إصلاحُ ما فيها مِن مُفارقات. وهذهِ المفارقاتُ، بحدِّ ذاتها، هي، مصدرُ بروزِ المفاهيمِ غيرِ المتوافِقَةِ، والآراء المُتفاوِتَةِ، والاجتهاداتِ التي قد تَصِلُ إلى حدِّ التَّعارُضِ والتَّناقُض الجَذْريِّينِ فيما بينهم.

إنَّ السِّياسةَ، كونها، في جَوْهَرِ وُجُودِها، تَوَجُّهَاً اجتِهادِيَّاً قِيمِيَّاً؛ فإنَّ العملَ مِن خلالِها يَفْرُضُ، على النَّاشطينَ في مجالاتِها، ما يُمكنُ الاصطلاحُ على أنَّهُ مِنْ يُمْكِنُ أنْ يُسمَّى، مِنْ بابِ الصطِلاحِ، “أخلاقَ الاقتناع” (Ethics of Conviction)، واقِعِيَّةَ الموضوعيَّةَ في تعاطيهِ مع شؤون قضيَّتهِ؛ وهذا ما قد يُعْرَفُ بـ”البراغماتيَّة”، (Sachlichkeit)، وأنَّ عليهِ، التمسَّك ههنا بالالتزامِ العاطفيِّ بِما يُمليهِ عليهِ الإلَهُ أو الشَّيطانُ، الذي يُلْهِمُهُ هذه الـقَضِيَّةِ (Sache) أو يُرْشِدُهُ إليها.

يُمْكِنُ الاستخلاصُ، أنَّ السِّياسةَ ميدانٌ للتَّنافُسِ؛ يُناضِلُ فيهِ النَاسُ، فيما بينهم، وبصورةٍ عمليَّةٍ مباشرةٍ، في سبيلِ تحقيقِ مُثُلٍ لَهُم وقِيَمٍ لِذواتِهِم ولِوُجودِهِم. وإذا ما كانَ تعدُّدُ المُثُلِ السِّياسيةِ والقِيَمِ المُرتبطةِ بها، مَجالاً مفتوحاً للمنافسةِ، فإنَّ السِّياسةَ سَتَتَّسِمُ، آنئِذٍ، وبكلِّ فاعليَّةٍ حيَّةٍ لها، بأنَّها مَجالٌ للصَّراعِ والخِلافِ والنِّضال. ولعلَّ في ما يُشيرُ إِلَيْهِ، جيريمي والدرون، الذي تَذْكُرُهُ المحافِلُ الجامعيَّةُ الكُبْرى اليومَ، بأنَّه أحد الفلاسفةِ القانونيين والسِّياسيين من الرُّوَّاد المعاصرين، وهو أستاذُ القانونِ والفلسفةِ في “كليَّةِ الحقوقِ” بـ”جامعة نيويورك” [New York University]، وكان منْ قَبْلُ، أستاذ “النَّظريَّةِ الاجتماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ” في جامعة أكسفورد [Oxford University])، ِمِن أنَّ التَّأثير البِنائِيَّ لهذا الأمرِ، لا يَقْتَصِرُ على تحديدٍ مُعيَّنٍ لطبيعةِ السِّياسةِ؛ بَلْ يُوَفِّرُ، كذلكَ، وبشكلٍ أساسٍ، تبيانَ السِّياقِ الذي تَنْشأُ فيهِ الحاجةُ إلى فاعِلِيَّةِ السِّياسةِ.

لعلَّ في هذا الاستيعابِ لفاعلِيَّةِ “التَّاثيرِ البِنائيِّ” للسِّياسةِ، ما يُتيحُ الكَشْفَ عن ما يُمكنُ اعتبارُهُ “شُّروطَ السِّياسَةِ”؛ وكذلكَ، إيضاحَ كيفيَّاتِ العملِ ضمنها وبها. إذْ يرى، والدرون، إنَّ ما يقفُ  وراءَ “الشُّعورِ بالحاجةِ إلى اتِّخاذِ قرارٍ، أو تحديدِ مَسارِ، بشأن أمرٍ ما، وحتَّى في ما يمكن أن يحصلَ من مساعي مواجهةِ الخِلافِ حَوْلَ ماهيَّةٍ معيَّنةٍ للْعملِ، أو في كيفيَّة تحقيقها؛ ضِمْنَ أعضاءِ مجموعةٍ معيَّنةٍ، منتظِمَةٍ في إطارِ عملٍ سياسيٍّ مشتركٍ فيما بينها، ليسَ سِوى ما يُمكنُ تسميتُهُ بـ”ظُروفُ السِّياسةِ” (The circumstances of politics).

تَنْشَأُ السِّياسةُ، اعتماداً على ما سبق استعراضه من نظرٍ، نتيجةً طبيعِيَّةً وواقِعِيَّةً لاختلافِ النَّاسِ، فيما بينهم، حَوْلَ ما يَجِبُ القيام بهِ بشأنِ موضوعٍ معيِّنٍ أو قضيةٍ ما؛ وذلكَ بناءً على أعتقادٍ يَشترِكونَ بهِ، قِوامُهُ أنَّ اتِّخاذَ قرارٍ مُلْزِمٍ بشأنٍ الموضوع أو القضيَّةِ التي يهتمُّون لها، أمرٌ مطلوبٌ لمصلحةِ الجماعةِ؛ وهذا ما ينبغي أنْ يقومَ عليه تكوينُ النَّظامِ السِّياسي. يبرزُ الخلافُ، ههنا، إذْ تطفو، إلى السَّطحِ، الكَيْفِيَّاتُ الخِلافِيَّةُ في الاختيارِ بينَ التَّصَوُّراتِ والمناهِج والآليَّاتِ. تذهبُ، نتيجةُ لهذا الحالِ، كلُّ مجموعةٍ، أو فردٍ، مِنَ المُتشاركين في العملِ السِّياسيِّ، إلى أنَّ ما وقع عليه اختيارُ كلٍّ منهم، هو الصَّوابُ والأفضل، مِنْ بينِ ما تراهُ المجموعات الأخرى، أو الأشخاصُ الآخرون مِن الشُّركاءِ.

إذا كانَ ثمَّةَ مَن يَنْظُرَ إلى هذا الاختلافِ، بينَ الشُّركاءِ، على أنَّهُ مِنْ بابِ “ردِّ الفِعلِ”، وأنَّهُ، كذلكَ، الوسيلةَ الدِّيمقراطيَّةَ التي يَتُمُّ مِن خلالها التَّوصُّلُ إلى قرارٍ عامٍّ يَلتقي عليهِ الشُّركاءُ كافَّةً؛ فإنَّ، ما سَبَقَتْ الإشارةُ إليهِ آنِفاً، مِن سيادة ما، عَبْرَ توالي الحقبِ التَّاريخيَّةِ للخَيْبَةِ السِّياسيَّةِ، يَقودُ، بطريقةٍ أو أُخرى، إلى تلاقٍ ما، مَع إصرارِ ماكس وِبِرْ، على أنَّه “إذا ما لَمْ نَرْغَب في النَّظرِ إلى السِّياسَةِ على أنَّها مُجرَّدُ “لعبة فكريَّة تافهةٍ”؛ فإنَّنا سنكونُ بحاجةٍ إلى فَهْمِ “السِّياسَةِ”، على أنَّها “ساحَةٌ” للمنافسَةِ بين القِيَمِ المتضاربة، والصَّراعِ فيما بينَ الذين يَسْعونَ إلى تحقيقِ ما يرجون من هذه القِيَمِ”  [And yet if politics is to be an authentic human activity and not just a frivolous intellectual game, commitment to it must be born of passion and be nourished by it]

يُستفادُ من دينامِيَّةِ هذا الصِّراع المستمر في السِّياسةِ، أنَّ انتصار أيِّ مجموعةٍ مِنَ القِيَمِ السِّياسيَّةِ، أو ما يمكن التَّعبيرُ عنهُ بـ”المَثَلِ الأَعلى السِّياسيِّ” ، سيكونُ بالضَّرورةِ مُؤقَّتًاً؛ وهذا ما يؤكِّدُ، بصورة عملِيَّةٍ جلِيَّةٍ، أنَّ “خَيْبَةَ الأملِ” ستكون أمراً طبيعيَّاً وعادِيَّاً؛ بل لعلَّها تكونُ، كذلكَ، حتميَّةً، في دورانِها بين المجموعات السِّياسيَّةِ، المٌتنافِسَةِ، يما بينها، أو تلك المُتخاصِمَةِ مع بعضِها.

يمكن، تالِياً الاستخلاص بأنَّ اجتماعَ التَّعدُّدِيَّاتِ القِيميَّةِ والمفهوميَّةِ، هو ما يُوَلِّدُ الحاجةَ إلى السِّياسَةِ؛ وما النَّشاطَ السِّياسيِّ، تالياً، سوى نتيجة عمليَّة للتَّلاقي، المُثيرِ للجَدَلِ الحيويِّ، بين ناسِ هذه التَّعَدُّدِيَّاتِ؛ وبالتالي، فلن يكونَ النَّظرُ إلى أيِّ قرارٍ عامٍّ سيُفْرَضُ، في هذا الشَّانِ، إلاَّ أنَّهُ قرارٌ غيرَ مُرْضٍ أو غيرَ مرغوبٍ فيهِ، من قِبَلِ ناس المجموعةِ الواحدةِ الذين لديهم وجهاتُ نَظْرٍ مختلفةٍ حَوْلَ ما يجبُ القيامُ بهِ.

يبدو، استنتاجاً مِمَّا سبقَ:

-أنَّهُ من خارجِ المنطقِ العمليِّ الواقعيِّ، الذَّهابُ إلى أنْ المحصِّلات العامَّة للسِّياسيَّةِ العملِيَّة، قادرةٌ على إِنجازِ تحقيقِ عمليٍّ لرؤيةِ الفردِ، أو رؤياهُ، إلى “المثلِ الأعلى”، الذي يؤمنُ بهِ أو ينحازُ إليهِ. 

-يكون المرءُ على توفيقٍ نسبيٍّ، إذا ما تمكَّنَ مِنْ إحرازِ ما هو أكثرَ مِنْ تشابهٍ أو تلاقٍ بينَ ما يسعى إليهِ، في مثاليَّةِ رؤياه، وذلك الواقِعِ المتحَصِّلِ، جرَّاء نضالاتهِ في دنيا السِّياسة.

-إنَّ الأمرُ، واستناداً إلى المفهوم الذي يُشير إليه وَبِرْ بـ “أخلاقَ الاقتناع” (Ethics of Conviction)، لا يستدعي، على الإطلاقِ، تَخَلِّي المجموعات أو الأشخاص، عن السَّعي وراء مثلهم الأعلى.

-أنَّه، ووفاقاً لرؤية وِبِرْ، فإنَّ العاملين في الشَّان السِّياسيِّ، مَدْعُوُّون إلى متابعةِ صِراعهم ونِضالهم فيما بينهم ومع الآخرين؛ آخذين، في كلِّ اعتبارٍ يرونه، أنَّ متابعَتَهُم هذهِ، سَتكونُ، وكما يُشيرُ وِبِرْ، “عملاً على الخَشَبِ الصَّلب”: بل إنَّ جهودهم، وإن حازت بعضَ نجاحٍ، في هذا الغرضِ، فَمِنَ المُحْتَمَلِ أنَّهم لَنْ يَقْدِروا، في نهايةِ المطافِ، على أكثر مِنَ الاقترابِ، بدرجات صَغيرَةٍ، مِنَ المَثَلِ الأَعلى، الذي يَسْعَونَ إلى تَحقيقه الفعليِّ.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى