أدب وفن

فاعلية الثقافة وأساسية النقد الثقافي سَعْيَاً إلى وَعْيٍّ عَمَلِيٍّ لـ”المُقَدَّس/الجَوْهَر”

زَمَنِ تدابِيرِ القرَاراتِ الدِّينيَّةِ والإداريَّة للتَّعامُلِ مَع الهَجْمَةِ المُعاصِرَةِ لِوَباءِ “كورونا”

الدكتور وجيه فانوس

جَمَع، وربَّما للمرَّةِ الأُولى في التَّاريخِ، الدِّيانةَ المَسيحيَّةَ والدِّيانةَ الإسلاميَّةَ في موقفٍ عَمَلِيٍّ عباديٍّ وعلنِيٍّ واحدٍ، اشتركتا فيهِ، تجاهَ أَهَمِّ مَكانٍ مُقدَّسٍ لِلعِبادةِ لَدى كلِّ مِنْهُما: “ساحةُ القدِّيس بطرس” في “روما”، و”صَحنُ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ” في “مكَّة”. لقد قرَّرتِ المَراجِعُ الدِّينيَّة الأَعلى، القائمةُ على أمرِ كلِّ واحدٍ مِن هَذينِ المكانينِ، بداعي التَّحوُّطِ مِن إصابةِ المُصلِّين فيهِ بِداءِ “الكورونا”، وَقْفَ شعائر الصَّلاةِ في المكانِ الذي تنتَسِبُ إليهِ.
يُوَضِحُ مضمونُ القرارينِ أنَّه وإنْ كانت طاعَةُ اللهِ هي الأساسُ الأكبر لمقوِّمات الدِّينِ، فإنّ تنفيذ هذه الطَّاعَةَ لا يكونُ إلاَّ بخدمةِ الإنسانِ الذي يؤدِّيها؛ وما هذا سوى تحقيقُ لجوهرٍ وجوديِّ يقضي باستمرارِ هذا الإنسان في الحياة. وانطلاقاً من هذين الحدثين، يُمكنُ استخلاصَ أمرين؛ يُشير الأوَّل مِنهما،إلى أنَّ هذين القرارَينِ صدرا بناءًعلى مُمارسةٍ مَسؤولةٍ لِما يُمكنُ اعتبارُهُ نَقْداً ثقافِيَّاً، إنمازَ بِفَصْلٍ عَمَليٍّ لما هو “مُقَدَّسٌ”، عن ما هو “قَديمٌ” أو “معاصرٌ” أو “شكليٍّ”، طالَما ظُنَّ بأنَّهُ جزءٌ مِن فاعليَّةِ القداسةِ في المُقَدَّس/الجَوهَر”.

من ناحية أخرى، فإنَّ ما باتت تعاينه البيَّة المؤسَّسات الإداريَّة والتَّعليميَّة، على امتداد دول العالم، من اعتماد ما بات يعرف بتقنيَّات “التَّواصل عن بُعد” وأساليبهِ، ضمن مجالات التَّفاعل الإداريِّ والتَّعليميِّ؛ فلم يعد من الأُسسِ اللازمة للعمل حضور الموظفين والمراجعين، بأشخاصهم،إلى المكاتب التي اعتادوا العمل فيها أو ارتيادها؛ والأمر عينه، بالنِّسبة إلى المجال التَّعليمي، حيث المُعلِّمين والمنسِّقين والإداريين والطلاَّب وسواهم، إلى قاعات التَّدريس التي طالما كانوا ينشطون فيها ومنها، بقدر ما صار من المناسب جدَّاً تأمين حُسن سير العملين، الإداريِّ كما التَّعليميِّ، عبر معطيات المِحْساب، “الكومبيوتر”، وسائر مجالات التَّواصل الإلكتروني العالمي عبر “الإنترنت”. تحوَّل مفهوم “شكل” الحضور إلى العمل، إلى “جوهر” فاعليَّة تأمين العمل، بغضِّ النَّظرِ عن كثير، إن لم يكن كثير من الشكليَّات التي طالما تحكَّمت بهذه الفاعليَّة. وهنا، يمكن الزَّعم، أنَّ ثمَّة انميازاً واضحاً في فاعليَّة العملين الإداري كما التَّربوي، بين ما هو جوهر هذه الفاعليَّة، وما هو تشكُّل تقليديٌّ لحضورَّ هذا الجوهر.
لَئِن كانَ “هِيغِلْ”(Georg Wilhelm Friedrich Hegel) يرى ، في ما تعارفَ بعضُ الدَّارسينَ على تَسميتِهِ “مقدِّمة عامَّة عن فلسفةِ التاريخ”، وما اشتُهِرَ عالميَّاً بـ(Reason In History)، بأنَّ تاريخَ العالَمِ هو، بشكلٍ عامٍّ، مَسارُ تطوُّر الرُّوح في الزَّمانِ، كما أنَّ الطَّبيعة هي تطويرٌ لِلفكرةِ في الفضاء؛ فإنَّ من المُمْكِنِ، تالياً، تكوينُ صورةٍ شاسِعَةٍ للتَّحوُّلاتِ والأفعالِ الإنسانيَّةِ؛ كما لِعددٍ لا مُتَناهٍ مِنَ التشكُّلاتِ المتنوِّعةِ، للشُّعوبِ والدُّولِ والأفراد، في تعاقبٍ لا يهدأ. ولذا، يستخلص “هيغل” أنَّ كلَّ أمرٍ، في مجال الوجودِ الإنسانيِّ، يمكن أن يُعتدَّ بهِ في مجال اهتمامات العقل الإنسانيِّ؛ إذ المصلحة الإنسانيَّة، جزءٌ لا يتجزَّأ من الذَّاتِ الإنسانيَّةِ؛ ومن هنا، يمكن فهم الانحياز الإنسانيِّ إلى جانب معيَّنٍ، أو إلى ما هو خلاف هذا الجانب[1].
يُمكنُ، تأسيساً على ما سبق، فهم الثَّقافة، في بُعدها العمليِّ، على أنَها ذلك المخزون الفكريُّ المعرفِيُّ، لكلِّ إنسانٍ مضافاً إليه، النَّهج التَّعبيريَّ، أو السُّلوكيَّ، عن هذا المخزون. فالثَقافة، في نهاية الأمر، فِكْرٌ ومعرفةٌ وتصرُّفٌ، يتفاعلُ كلٌّ منهما مع الآخر، تبادلاً للتَّأثُّرِ والتَّأثيرِ؛ لبناءِ حضارِيَّةِ عَيْشٍ إنسانيٍّ مُعَيَّنٍ. ولعلَّ في هذا التَّوجُّه، ما قد يجد صدىً لهُ في ما يذهب إليه الباحثُ المصريُّ المعاصرُ، “طارِق حِجِّي” (Tarek Heggy)، في الفصلِ الثَّاني من كتابِهِ “الثَّقافة، الحضارة والإنسانيَّة” (Culture, Civilization and Humanity)، الصَّادر باللُّغة الإنكليزيَّة سنة 2003.[2]إذا ما أُخِذَ بعينِ الاعتبارِ أنَّ الثَّقافَةَ زُبدةُ النَّتاجِ الحضاريِّ الإنسانيِّ، من جهة، وبذرةُ تطوُّرِ هذه الحضارة، من جهة أخرى؛ فلا بدَّ، تالياً، من النَّظر إلى “النَّقد”، على أنَّهُ من أبرز حوافز تصوُّر الإنسان لحاله وسعيه الدَّؤوب، إمَّا إلى تَكْيُّفٍ لِذاتِهِ مع هذهِ الحال، أو جَهْدِهِ في العَمَلِ على تَطوير الحال الذي هو فيه أو حتَّى تَغْييرِه. فالنَّقدُ، الواعي، عمليَّةٌ خُصَّ بها الإنسانُ، ولربَّما كانَ لهذا التَّخصيص أنْ يَبني أهميَّة “النَّقدِ”، بشكلٍ عامٍّ، و”النَّقدِ الثَّقافيِّ” بِوَجْهٍ خاصٍّ. مِن هنا، كان لا بدَّ للفِعل الثَّقافِيّ، من أنْ يَخضعَ لعمليَّةِ نَقْدٍ؛ فإذا ما غُيِّبَ الفِعلً الثَّقافِيّ عن هذا “الخضوعِ”، فَلَنْ يُمْكِنَه تحقيقُ أيِّ تَقدُّمٍ حضاريٍّ أو تَطوُّرٍ معرفيٍّ أو أيِّة إضافةٍ إيجابِيَّةٍ إلى المسار الإنسانيِّ.
ينهضُ “النَّقد الثَّقافيَّ” على أساسِ ما فيه مِنْ “حادِثٍ ثقافيٍّ” ينبثِقُ مِن ذاتيَّة وجوده الفرديِّ، الجماليِّ منه أو المفهوميِّ، مُتَجَلِّيَاً في نَصٍّ أو عَمَلٍ، لِيُصْبِحَ وجوداً دالاً على قِيَمٍ جَمْعِيَّة حَضارِيَّةٍ تَنْتَظِمُ كينونَتَهُ، في الوقتِ عينهِ الذي يكونُ فاعِلاً فيهِ في وجودِ هذه القِيَمِ.فـ”النَّقد الثقافيُّ”، يتعاملُ مع النَّصِّ، أو الحَدَثِ، من منطلق كونِ كُلاَّ منهما يشهدُ لِناسه، الذين انبثقَ منهم، كما يكشُفُ عن مفاتيحَ تَصْلُحُ لاستطلاعٍ ما للزَّمنِ الآتي من آفاقٍ. إنَّ الوظيفةَ التي يسعى إليها “النَّقد الثَّقافيَّ”، تنمازُ بهذه الفاعِلِيَّةِ، عن تلكَ التي يرومها النَّقد التَّقليدي؛ والذي لا يكون سوى بتحقُّقٍ لقواعدَ يعتمدها ومفاهيمَ يعتقدها وقِيَم يعمل بهديها؛ أو، ربَّما، لتسويغٍ ما يُمكِنُ أنْ يتجلَّى، بالنَّصِّ أو الحَدَثِ، مِن أبعادٍ جمالِيَّةٍ لوجودِ أيٍّ منهما.
واقِعُ الحال، ثمَّة مَن يعارِض هذا التَّوجُّه لإهمالِ ما هو جماليٌّ في مجالاتِ “النَّقد الثَّقافيِّ”؛ بل ثمَّةَ مَن يَسعى إلى الإبقاءِ على القِيَمِ الجماليَّةِ ومفاهيمها ضمنَ البحثِ في الأنساقِ الثَّقافيَّةِ وإمكانيَّاتِ سَبْرِ فاعليَّةِ الثَّقافةِ مِن خلالها. ويُقَدِّم الأكاديميُّ الإنكليزيُّ “جيمس سودرهولم” (James Soderholm)، خيرَ دليلٍ على هذا؛ إذ يَرى إنَّ “النَّقد الثَّقافيَّ” يَنْهَضُ حاليَّاً على ما يُمكنُ اعتبارُهُ طغيانَ الرُّؤى العَقْدِيَّةِ، السِّياسيَّةِ منها كَما الإيمانيَّةِ والأخلاقِيَّةِ، على الرُّؤيةِ الواقِعِيَّةِ، أو العَمَلِيَّةِ، لِلْفِعْلِ الثَّقافيِّ؛ كما يُشيرُ إلى أنَّ “النَّقد الثَّقافيَّ”، المُنْشَغِل بالأنساقِ الحضاريَّةِ والفكريَّةِ والسُّلوكيَّةِ، سيكون عامل إبعادٍ لكثيرٍ من أعمال مبدعين قائمةً على الرُّؤى الجماليَّة مِن دونِ سِواها.[3]يَرْتَبِطُ“النَّقد الثَّقافيَّ”، بتركيزه المُعَمَّقِ، والمُتعِّدِّدِ التَّوجُّهاتِ والاهتماماتِ، على التَّعاملِ الانْفِتاحِيِّ معِالأمورِ التيسَبَقَ الاعتيادُ على تجاهُلِها أو تَهْمِيشِها أو كَبْتِها، بناءً على أُسُسِ التَّعامُلِ النَّقديِّ من خلالها، انْطِلاقَاً مِن مَفاهيمِ الأَيْديُولوجيا الجَمَالِيَّةِ أو الدِّينِيَّةِ. يَهْتَمُّ “النَّقدُ الثَّقافيَّ” بِالتَّركيزِ على دِراسَةِ الظُّروفِ الاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ، التي تَتَجلَّى في الآدابِ،أو تِلْكَ التي تَظْهرُ مِن خِلالِ احترامِ الهَرَمِيَّةِ القيميَّةِ التَّقليديَّةِ للأمور. و”النَّقدُ الثَّقافيُّ” لا يَنْشَغِلُ، تالياً، بِفَحْصِ الامْتِيازِ المُعتادِ للأَيْدْيولُوجيا أو العِرْقِ أوالطَّبقةِ أوالجِنسِ. يَعْمَدُ “النَّقْدُ الثَّقافيُّ” إلى ما يُمكنُ اعتبارُهُ تقويضاً للفروقِ التَّقليديَّةِ، وَنَسْخاً لِما قد يُعرَفُ بـ”الرَّفيع” وما قد يُعْرَفُ بـ”الهابط”، مِنَ الآدابِ والفُنونِ والمَفاهِيمِ والقِيَمِ والسُّلوكِيَّات.
لَعلَّ في ما يَعرضه كِتابُ “النُّقَّاد المسيحيُّون: الدِّين والمأزق في الفِكر الاجتماعيِّ الأميركيِّ الحَديث”(Christian Critics: Religion and the Impasse in Modern American Social Thought)، الصَّادر سنة 2000، عَن أبحاثٍ في الموضوعاتِ الدِّنيَّةِ، عَبْرَ”النَّقدِ الثَّقافيِّ”، لِمجموعاتٍ مِن أهلِ”النَّقد الثَقافيِّ” في أميركا؛ ما قد يُساهِمُ في أعطاءِ، ولو صورةٍ مُخْتَصَرةٍ عن بعضِ ممارساتِ هذا النَّقد في أميركا.
قد يكونُ من المفيدِ، ههنا، الإشارةُ إلى أُنْموذَجَينِ مِنَ اهتماماتِ هؤلاءِ النُّقَّادِ، تبياناً للأبعادِ النَّقدِيَّةِ التي جرت مقاربتها. الأنموذجُ الأوَّلُ يقدِّمُ “هيلموت ريتشارد نيبور” (Helmut Richard Niebuhr) (1894–1962)، الذي يُعتبر مِن أهمِّ علماءِ الأخلاقِ اللاَّهوتيين المسيحيين في أميركا، في القرنِ العشرين؛ وخاصَّةً مِن خلالِ كِتابه “المسيحُ والثَّقافة” (Christ and Culture) الصَّادر سَنَة 1951، إذْ سعى إلى دراسةٍ لعلاقةِ الكنيسةِ المسيحيَّةِ بِالمجتمعِ الثَّقافيِّ الذي يَعيشُ فيهِ أتباعٌ لها؛ مُحاولِاً تقديمَ طروحاتٍ في مَوْضُوعِ ارتباطِ “السيِّدِ المسيحِ” بِناسِ الزَّمنِ الرَّاهن. يُقدِّمُ الأنموذجُ الثَّاني، بول يوهانس تيليش Paul Johannes Tillich (1886 -1965)، وهوَ فيلسوفٌ وجُودِيٌّ مَسيحِيٌّ أميركيٌّ، مِن أصلٍ ألمانيٍّ، يُعتبرُ من بينِ أكثر اللاَّهوتيين المسيحيين تأثيراً في القرن العشرين؛ إذ يُميَّز، وخاصَّة في مؤلَّفِهِ الأشهر”ديناميات الإيمان” (Dynamics of Faith)، الصَّادر سنة 1957، بينَ”حضورِ الشَّكلِ” و”جَوْهرِ المضمونِ”، في الموضوعاتِ اللاَّهوتيَّةِ؛ مُشيراً إلى أنَّ طبيعةَ الوَحْي هي المسؤولُ عنِ المضمونِ الفِعليَّ للإجاباتِ اللاَّهوتِيَّة، في حين إنَّ طبيعةَ الأسئلةِ، التي تُطْرَحُ، ههنا، هي التي تُحَدِّدُ شَكْلِ الإجاباتِ.
قد تبدو الدِّراساتُ المتعلِّقةُ بـ”النَّقدالثَّقافِيّ” قليلةً في العالم العربيِّ؛ عِلْماً أنَّ هذا النَّقد مُتَوافِرٌ، عَمَلِيَّاً، في الحياةِ الثَّقافِيّةِ العَرَبِيَّة مُنْذُ آمادٍ بَعيدةٍ. إنَّ كتابات غالِبِيَّةِ مُفكِّري الفلسفةِ الإسلاميَّةِ والعَرَبِيَّةِ، إنَّما تَصُبُّ، في نهايةِ المطافِ، عَبْرَ بعضِ جوانبِها، في خانةِ “النَّقد الثَّقافيَّ”؛ كما هو الحال في “تهافت الفلاسفة”، لأبي حامدٍ الغزالي ((450 هـ – 505 هـ / 1058م – 1111م)؛ إذ سعى إلى إقامة صُلحٍ ما، بين المنطق والعلوم الإسلاميَّة؛ ورأى أنَّه لا يمكن لأسسِ المنطق اليونانيِّ أن تكون محايدةً تجاه التَّصوُّرات المِيتافِيزيقيَّةِ اليونانيَّةِ، بلْ يجب أنْ تكونَ مَفصولةً عنها. ولقد ذَهَبَ”الغزاليُّ”، إلى القَوْلِ بأنَّ محاولات الفلاسفةِ لإدراكِ أمرٍ غيرِ قابلٍ للإدراكِ بحواسِ الإنسانِ، هي محاولاتٌ تُجافي أُسُسَ مَفهومِ الفلسفةِ. “وتهافُت التَّهافت”، لـ”ابن رُشد”، (520 هـ- 595 هـ/ 1126م – 1198م)؛ الذي يمثِّلُ ما يمكن القولُ إنَّهُ محاولةُ ردِّ اعتبارِ الفلسفةِ؛ بَعْدَما أصابَها بِهِ “الغزاليُّ”بِكِتابِهِ”تهافت الفلاسفة”. ويُضافُ إلى، هذا التُّراثِ،في محاولات “النَّقد الثَّقافيَّ”، ما وَضَعَهُ”مُحمَّد بِن طُفَيْل”(500 ه- 581 ه /1106م- 1185م)؛ عَبْرَ سَردٍ قصصيٍّ تمثَّلَ في رِسالة “حَيْ بِن يَقْظان”؛ التي أشارَ فيها “ابن طُفَيلٍ” إلى آرائهِالقائلةِ بِعَدَمِ التَّعارُضِ بَيْنَ العَقْلِ والشَّريعةِ، أو بَيْنَ الفَلْسَفَةِ والدِّين.

تُجْمِعُ غالبيَّة المفكّرين المسلمين، في القرن التَّاسعِ عشر ومطلع القرن العشرين، على ضرورة تطوير كثيرٍ مِمَّا هو “شكلٌ” في تطبيقات بعضِ أحكام الشَّريعة،مع التمسُّكِ الأساسِ بما هو مِن”جوهِر” مضامينها ومقاصِدِها؛ ويشترطُ رأس التَّنفيذِ العمليِّ لهذا الإجماع، أن يكون الاجتهادُ في هذه الأمور محصوراً بالعلماءِ المؤهّلين للقيام بذلك.
يمكن الزَّعم أنَّ “رَفاعة الطَّهطاوي” (1216 هـ/1801 -1290 هـ/1873)، هو أوّل مَن دعا، من بين ما يُصْطَلَحُ على تَسْمِيَتِهِم “كُتَّابِ عصرِ النَّهضة”، إلى تفسيرِ الشَّريعةِ بِما يتّفقُ مع حاجاتِ العَصْرِ؛ وقَد أعلنَ، بهذِهِ الدَّعوةِ، إمكانيّةَ أنْ يكون ثمَّة نظرٌ في تَناسُبٍ ما للشَّريعة مع الظُّروف المستجدَّةِ للعيشِ والفِكر. ورغم أنَّ “الطَّهطاويّ”، قد يكون، بِحُكْمِ إقامته خلال خمسِ سنواتٍ (1241-1247 ه./1826-1831م)، في “باريس”، مطَّلِعاً على فِكْرِما يُعْرَفُ بـ”َعَصْرِ الأنوارِ الأوروبيّ”؛ بَيْدَ أنَّهُ أَصَرَّ على أنّ لا بُدّ للإصلاحِ مِنْ أن يَمُرّ عَبْرَ الشَّريعةِ، ولا يَخْرُج عنها. ويُنَظرُ، في هذا المجالِ، إلى الإمامِ”محمّد عَبْدُه” (1266هـ – 1323هـ / 1849م – 1905م) على أنَّه مِنْ كِبارِ مُفكّري الإصلاحِ الإسلاميّ؛ وكانَ يَرى أنَّ على الشَّرائعِ الحديثةِ أنْ تننْبَثِقَ مِنْ ضمن الشَّريعةِ، وَلَيْسَ بالاستقلالِ عنها.
عَرف العالَمُ العربيُّ، في التَّاريخِ المُعاصِرِ، عَدَداً كبيراً مِنْ مُحاولاتِ“النَّقدِ الثَّقافيَّ” في مرحلةِ”ما بعدِ الكولونياليَّة” (post colonialism)؛ ولعلَّ “عبد الله العلايلي” و”إِدْوارد سَعيد” و”مُحمَّد عابِد الجَابِري” و”عبدُ الله الغَذَّامي”، هُم مِن بَيْنِ أبْرَزِ الذين كتبوا في مجالاتِ “النَّقد الثَّقافيَّ” مِن العربِ المُعاصرين. لقد سعى “عبد الله العلايلي”، وخاصَّة عبر مؤلَّفه “أين الخطأ”، إلى إعادة نظرٍ نقديٍّ في بعض المفاهيم التي تتحكَّم بكثير من الأفكار والآراء وربما الأحكام في الثَّقافة الفقهيَّة الإسلاميَّة، معتمداً مقولته الشَّهيرة “لَيْسَ مُحَافَظَةً التَّقْلِيدُ مَعَ الخَطَأِ؛ وَلَيْسَ خُرُوجًا التَّصحِيحُ الَّذِي يُحَقِّقُ المَعْرِفَةَ“[4]؛ كما حاولَ”إدوارد سعيد” سَبْرَ أغوارِ الخطابِ الاستِشراقِيِّ للنَّفاذِ إلى الفِكرِ الغربيِّ وتبيانِ نزعةِ المركزيَّةِ الغربيَّةِ ومضمون الخطاب الموجَّه للآخر.[5]وقدَّم “محمَّد عابد الجابري” مشروعاً فِكرِيَّاً ثقافِيَّاً، عِمادُهُ، النَّظر إلى الأجزاء في إطار الكُلِّ، وربط الحاضرِ بالماضي في اتَّجاه المُستقبَل؛ أمَّا الغاية، فرغبةٌ في اكتساب رؤيةٍ جديدةٍ شموليّةٍ إزاء مشاكلِ الفِكر العربيّ المعاصِر؛ سعياً إلى خلاصِ هذا الفِكر مِن الإشكالاتِ التي وَضَعَتْهُ فيها الرُّؤى التّقليديَّةُ القديمةُ. وثمَّة مَنْ يَرى في “عبد الله الغذَّامي”، سَعْياً إلى إحداثِ تَغْييرٍ في الأفكارِ والأنساقِ الثَّقافيَّة.
كانَ لبعض هذه المحاولاتِ أن انطلقَ من خلفيَّاتٍ مَعْرِفِيَّة وثقافيَّةِ هي ابنةُ مرحلة الكولونياليَّة (Colonialism)، كما كانَ للبعضِ الآخر، مِن تلك المحاولاتِ، أنْ انطلقَ مِن خلفيَّاتٍ مَعْرِفِيَّةٍ وثقافيَّةٍ هي وليدةُ الفِعلِ، أو ردِّ الفِعلِ(action and reaction)، في مرحلةِ العَلْمَنَةِ تحديداً. ويتشكَّل العاملَ المؤثِّر في هذه المنطلقات، بصورة أساسٍ له، على اختلافها وتنوُّعها، بناء على المرحلة الزمنيَّة التي بَنى فيها النَّاقد الثَّقافِيّ مقوِّمات ثقافته النَّقديَّة.

كيف ما دار الأمر، فإنَّ “النَّقد الثَّقافيَّ””، توصَّل في المرحلة الرَّاهنة إلى أن يُعترَف به أكَّاديميَّاً، من قِبَلِ كثيرٍ من الباحثين العالميين ومراكز الدِّراسات الثقافيَّة؛ وأن يكون، كذلك، ممارسةً نقديةً، تحتلُّموقِعاً بارزاً لها، عابراً للثَّقافات والقوميَّات والحضارات واللُّغات، في مساحات الشَّانِ المعرفيِّ الأكَّاديميِّ الإنسانيِّ. وثمَّة من يعتقد أنَّ “النَّقد الثَّقافيَّ”، بات يتبوَّأُ، بسبب مِن تنوُّعِ مكوِّناتِهِ المنهجِيَّةِ والفكريَّة، واعتماداً على ما يَدَّعيهِ ناسُهُ مِن توجُّهاتٍ تخدُمُ البُعْدَ الوظيفيَّ لمفهومِ الدِّمقراطيَّةِ، مصافَ “التيَّار الفكريِّ” الأنسب للعصر.[6]يُعتبرُ الفِكْرُ الدِّينيُّ، بنظر عِلم الاجتماع، عامَّةً، وحقولِ دراسات تاريخ الأفكار(History of Ideas) ، أحد أهم المُحَفِّزات الأساسِ لفاعِلِيَّةِ العقل الإنسانيِّ الجمعيِّ في المجتمعات المتديِّنة. ولربما كانَ هذا العاملُ البنائيُّ، في المجتمعاتِ الدِّينيَّةِ، هو الدَّاعي إلى ما قَدْ يَشْهَدُهُ هذا الفِكرُ، مِنْ سِماتِ ضعْفِ التَّفاعلِ مع بَعضِ مُعطياتِ التَّسارعِ العالميِّ في العِلمِ والثَّقافةِ والاقتصادِ والاجتماعِ، مِن جهةٍ؛ والسبَّبُ الذي قد يُعيقُ إظهارَ الفاعليَةِ الإيجابيَّةِ للدِّين، وما ينهضُ عليهِ مِن مقدَّساتٍ، في الإفادةِ مِن إمكاناتِهِ وأطروحاتِهِ، وتَطويعِها لِخِدمةِ الإنسانيَّةِ المعاصِرة.
لعلَّ ما يَنْقُصُ الثَّقافَةَ العَرَبِيَّةَ اليوم، في هذا المجال، هو التَّعمُّقُ في مناهج “النَّقد الثَّقافيَّ”؛ خاصةً بعد أن فَقَدَت الثَّقافَةُ العَرَبِيَّةُ، في القرونِ الأربعةِ أو الخمسةِ الماضيةِ، مساحةً كُبرى مِن حِسِّها النَّقديِّ؛ إذْ انتقَلَت، هذهِ الثَّقافَةُ، مِن القُدرةِ المتوثِّبَةِ على المناقشةِ، إلى القابليَّةِ المُرْعِبَةِ للقبولِ والاستسلام. وقد يُمكنُ، هَهُنا، التَّفريقُ بينَ ما هُو بنىً “وفيَّةً” للقديمِ والجديدِ، وبين ما هو “مقدَّسٌ” لا يَتَحمَّلُ التَّشكيك أو المناقشة على الاطلاق.
يَسْمو جَوْهَرُ المُقدَّسُ على الزَّمانِ والمكانِ وما فيهما، إذ هو الفاعِلُ في وجود كُلٍّ مِنْهُما. وتنبثق عن “المُقَدَّسِ”، تالياً، مفاهيمٌ وقِيَمٌ تنتظمُ الوجودَ، بتجلِّياتٍ متنوِّعةٍ لها؛ تنهضُ على منطِقِ المكانِ والزَّمانِ والأقوالِ والحركاتِ، وما سوى ذلك، باعتبارها أدواتَ تحقيقِ ظهورِها وإدراكِها عَبْرَ هذا الظُّهور. ومِن هنا، فكلُّ ما يتجلَّى بهِ هذا المُقَدَّسُ، لا يعدو كونه أداةٍ؛ ولا يمكنه، تالياً، أن يتجاوزَ حقيقة كونه أداة لا أكثر؛ لَكِن، ولَطالما كانَ للوَعيِ الإنسانيِّ أنْ يَخْلُطَ بينَ المُقَدَّسِ وأداةِ تَجَلِّيهِ؛ حتَّى وَصَلَت الحالُ إلى أنَّ بعضَ النَّاسِ باتَ يصعُبُ عليهم التَّصْديقَ أنَّ ثمَّةَ انميازاً أساساً بَيْنَ ما هو مُقَدَّسٌ وما هو تَجَلٍّ لهذا المُقَدَّسِ. ولعلَّ أكثر أمور هذا الخلطِ دِقَّةً وحساسيَّةً وصعوبةً، تكونُ في ما هو ذو بُعدٍ أو وجودٍ دينيٍّ؛ إذْ ثمَّةَ يُسْر،ٍ في مجالاتِ ما هو فِكرٌ دينيٌّ، لِصَهْرِ ما هُوَ مُقَدَّسٌ بأداةِ تَجَلِّيهِ.[7]

إنَّ كثيرين قد يَخْلطونَ، في هذا المجالِ، بين “القديم” و”“المُقَدَّس/الجَوهَر””؛ فثمَّة مَن ينظرُ إلى “القديم”، على أنَّه “مُقَدَّسٌ” لا يمكن مناقشته أو نقده أو المَساس به؛ بل ثمَّةَ مَنْ يُدْخِلَ هذا الخَلْطَ، في لُجَجِ بَحْرِ المُسَلَّماتِ. طبعا هذا خطأ، إذْ البنى الفكريَّة القديمة، كما تلكَ الجديدة، مُجرَّدُ أبنيةٍ، لجوهرِ “المُقَدَّس/الجَوهَر”، وهي ناتجةٌ عن فِكرٍ ونَظَرٍ في المُمارسة. والفِكرُ الثَّقافِيّ، لأنَّه فكرٌ إنسانيٌّ، فإنَّهُ فِكرٌ قابلٌ للمناقشةِ والمراجعةِ؛ بل إنَّه يفرضُ، بحيويَّةِ وجوده، فضلاً عن سعيه الدَّؤوبِ إلى استمرارِ هذه الحيويَّةِ، إخضاعه للنَّقد.
لا بدَّ،ههنا، مِن تَفْرِيقٍ لـ”القديم”، باعتباره أداةَ تَجَلٍّ لـ”“المُقَدَّس/الجَوهَر””،عَنْ عينِ حَقِيقَةِ“المُقَدَّس/الجَوهَر”، باعتبارهِ وجودَ جوهرٍ. فـ“المُقَدَّس/الجَوهَر”، واضحٌ، بِحُكْمِ جوهرِ انبثاقِهِ “العُضويِّ” مِنَ “الإلهيِّ”، بشكل خاص، و”المبدئيِّ”، بشكلٍ عامٍّ؛ و”الإلهيُّ”، مُشْرِقُ بتألُّقِهِ المُضيئِ والمُبينِ في الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ المُقَدَّسَةِ؛ في حين إنَّ “المبدئيَّ” يؤكِّد أساسه في كونِه منطلق الفكرة والرَّأي والتَّصوُّر والحقيقة. إنَّ “المُقَدَّس/الجَوهَر” يَتَجاوزُ، بِجوهرِ قُدْسِيَّتِهِ، أو أساس مبدئيَّتهِ، حدودَ الزَّمانِ، قِدَماً وجِدَّةً، على حدٍّ سواء. ولذا، وعلى سبيل المِثالِ، فليسَ كلُّ ما في الطَّقسِ الدِّينيِّ أو الفكريِّ “القديم” أو “المعاصِر”، أو “السَّلفيِّ” أو “الحديث”، ينتمي إلى “المُقَدَّس/الجَوهَر”؛ ولا بدَّ، تالياً، من أن يكون كلَّ هذا،موضوعاً للنَّقد الثَّقافي؛ سعياً واقعيَّاً إلى تطوُّره وتجدُّده وتناغُمِهِ متغيُّرات الزَّمانِ والمكانِ ومفاهيمِ المعرفةِ المتجدِّدة. كلُّ ما ينقص، في هذا المجال، يكمن في الجرأة والثِّقة بالذَّاتِ، عند التَّفريق بين ما هو “القديم” وما هو “المُقَدَّس/الجَوهَر”.
في الأنموذج الإسلاميِّ مِثالٌ على هذا؛ إذ تُمكنُ الملاحظةَ أنَّ في المُقَدَّس/الجَوهَر”الاسلامِيِّ، ما هو ثابتٌ وما هو متحوِّلٌوما هو مُتَكَيِّفٌ. إن “وحدانيَّةُ الله”،على سبيل المِثالِ، مُقدَّسٌ ثابتٌ لا يتغيَّرُ أو يَتَحَوَّلُ أو يَتَكَيَّف. “الصَّلاةُ”، في أنموذجٍ آخرَ للمقدَّس، هي مُقدَّسٌ قابلٌ للتَّكيُّفِ والتَّحوُّلِ، وِفاقاً لظروفِ مَنْ يتعاملُ معها؛إذ يُمكنُ القِيام بها قعوداً، لمن لا يمكنه الوقوف؛ ويمكن تأديتها، ولو برمشِ العَيْنِ، لغيرِ القادر على الحركة تماماً؛ كما يُمكن التَّحضُّر لها بالتَّيمُّمِ، لِمَنْ لا يَجِدُ ماءً أو يُلاقي أذىًمِن استخدامِهِ للماءِ؛ وهذه الأمورُ، بِحَدِّ ذاتِها، لا تُخرِجُ الصَّلاةَ مِن إطارِ “المقدَّسِ”، بل تُبقيها ضمنه، ولكن في دائرةِ القابليَّةِ للاجتهادِ فيه؛ وهذا ما يُشيرُ إلى انفتاحيَّةٍ إسلاميَّةٍ مذهِلَةٍ للتَّعاملِ الموضوعيِّ العميقِ مع “المُقَدَّس/الجَوهَر”.
تشجع اليوم مؤسسات وشركات عالميَّة رفيعة المستوى ، مثل Google وMicrosoft اعتماد سياسة العمل من مقر الإقامة لكل واحد من العاملين لديها أو المتعاملين معها؛ كما أنَّ كثيراً من المؤسَّسات الأخرى، التي تعتمد تكنولوجيا التَّواصل الإلكتروني، باتت ترحِّب بعمل موظَّفيها والتَّفاعل مع عملائها، كلٌّ من مكان إقامته، وليس بوجوده المباشِر في مكاتبها. وقد تبيَّن للقيمين على هذه المؤسَّسات أن ما كان يخصص في مؤسساتهم لملفة العمل المباشر، في المكاتب وسواها، بات بالإمكان توفيره؛ كما توضَّح لكثير من المتعاملين ما يمكن أن يؤمنه التواصل الإلكتروني من توفير في الوقت والمال والجهد[8].
لذا، يُمكن التَّأكيد أنَّ “المُقَدَّس/الجَوهَر” ليس جلمود صخرٍ يُعيق مسارَ الحَقِّ، بقدرِ ما “المُقدَّس” إطارٌ مرجعيٌّ تأسيسيٌّ وأساسٌ يعملُ باتِّجاهِ التَّناغُمِ الايجابيِّ للحياةِ الإنسانيَّةِ مع تطوُّراتِها والمتغيِّرات الانسانيَّةِ المتوافقة مع جوهرِ هذا “المُقَدَّس/الجَوهَر” والمراعية له. هذا يعني، في مجال “النَّقد الثَّقافيَّ”، أنَّ للإنسان حُرِيَّةُ التَّعامل مع موضوعاتٍ ثقافيَّةٍ، بل ومع أيِّ ثقافةٍ كانت؛ غير أنَّه لا بدَّ له مِن “اخضاعِ” هذا التَّعامل لقاعدة النَّقد. والنَّقد يعني،ههنا، تبصُّراً بحقيقةِ “المُقَدَّس/الجَوهَر”، ضمن فلسفةٍ محدَّدةٍ واعيةٍ، قوامِها الوعيُّ الشَّامِل؛ وبرؤيةٍ عميقةٍ ثاقبةٍ، عِمادها الثَّقافةُ النَّاضجةُ؛ وكذلك، بمنهج عملٍ موضوعيٍّ، ينبعُ من إنَّ الدِّين لخِدمةِ الحياة؛ وأنَّ الحياةَ حقٌّ للإنسان، يوجِبُ عليه تكريمها وتشريف عيشِهِ فيها؛ وذلك إنفاذاً لغايةٍ واضحةٍ على أساسها تتَّحِدُ كلُّ تلك الأمور؛ قوامها ما ورد في الآية 97 من سورة “آل عمران” ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، وما ورد في الآية 37 من سورة “الحج” ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾.
من الواضح، لمن يتدبَّر ما في “الكتاب المُقدَّسِ” و”القرآن الكريم”، أنَّ الله ليس بحاجةٍ إلى أي شيءٍ من أمور خلقه، وما عبادتهم له، التي يأمرهم بها، سوى تزكية لأنفسهم وخدمة لما فيه صالح وجودهم. ولعلَّ في ما يؤكِّد هذا التَّوجُّهَ، ما يردِ في “الكتاب المُقدَّسِ”: “رسالة بولس الرَّسول الثَّانية إلى تيموثاوس 3: 1-5” [“وَلكِنِ اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ، بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ ِللهِ، لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ]”؛ وما يرد، كذلك، في “القرآن الكريم”، في الآية 131 من سورة “النِّساء” ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾.
وإذا ما كانت الغاية هي الحفظُ الحقيقيُّ لـ“المُقَدَّس/الجَوهَر”، وهو حفظٌ يعني تفعيلَ ““المُقَدَّس/الجَوهَر””، باتِّجاه عَصْرَنَةِ الحياةِ وتناغمه معها، ضمن أسسهِ الثَّابتة؛ فالقضيَّة باتت الآن قضيةَ عِلْمٍ حقيقيٍّ ومنهجٍ موضوعيٍّ ورؤيةٍ رصينةٍ؛ ولا يعود، تالياً، ثمَّة إشكال. أما اللُّجوءُ إلى القَمْعِ والتَّرهيب، فهذا لا يتوافقُ مع أصولِ“النَّقد الثَّقافيَّ”؛ وهنا لا مندوحةَ مِنَ القول إنَّ المُسْتَغِلَّ سوف ينكشفُ استغلالهُ وينفضحَ أمرهُ في هذا المجال.
كيفما دارَ الأمرُ، فإنَّ المتغيِّراتِ في الزَّمن الرَّاهن أصبحت أقوى من كلِّ مظهرٍ للثَّبات؛ حتَّى لكأنَّ العالَمَ المعاصِرَ ما عادَ يعرفُ حقيقةَ وَجْهِهْ؛ بل لعلَّه بدأ يوقن، وبصورة عمليَّة، أنْ لا حقيقةَ ثابتةَ لِما كانَ يعتبرُه وَجْهَاً لهُ ومقياساً لِوُجودِهِ. ولا بُدَّ للجميعِ، وخاصَّةً أهل الثَّقافةِ العَرَبِيَّةِ وناسِها، والحالُ كذلك، مِن مواجهةِ تَحَدِّي هذا الواقِعِ والنَّظرِ المَوْضوعِيِّ فِيهِ والسَّعيِّ الدَّؤوبِ إلى توفيرِ مناهج صحيحةً للتَّعاملِ العِلْميِّ المَوضوعيِّ معه، إمَّا لِمصلحةٍ لَهُم في استمرارِهِم في هذا العَيْشِ المُعاصِرِ وانتعاشِ آفاقِ إيجابيَّةٍ لِهذا العيشِ لَهُم، أو رغبةً مِنْهُم في القَضاءِ عَلَيْهِ وتَبْديدِ قِواه.

الهوامش:
• [1]– Georg Wilhelm Friedrich Hegel, Reason In History, a general introduction to the Philosophy of History, A Liberal Arts Press Book, The Bobbs-Merrill Company, Inc. 1953: [World history in general is the development of Spirit in Time, just as nature is the development of the Idea in Space. When we cast a glance at world history in general, we see a tremendous picture of transformations and actions, an infinite of varied formations of peoples, states, individuals, in restless succession. Everything that can enter and interest the mind of man, every sentiment of goodness, beauty, greatness is called into play. Everywhere aims are adopted and pursued which we recognize, whose accomplishment we desire; we hope and fear for them].

• [2]– Tarek Heggy, Culture, Civilization and Humanity, Frank Cass Publishers, London, 2003.: [The measure of any society`s development and progress lies not in the wealth of which it disposes or the natural resources that it harbours; but in the value systems to which its citizens ascribe, the mores by which the entire community, from the base to the summit, is governed] Chapter Two: The Most Important Values of Progress.

• [3]– James Soderholm,Beauty and the Critic: Aesthetics in an Age of Cultural Studies, University of Alabama Press, 1997, pp. 3, 107, 111.
• [4]– عبد الله العلايلي، أين الخطأ، الطبعة الثانية، دار الجديد، بيروت، 1992.
• [5]-أحمد شحيمط، نقد الخطاب الاستشراقي وجدلية الشرق والغرب، ادوارد سعيد انموذجاً، مجلَّة دراسات استشراقية، العدد: ،14، السنة الخامسة – ربيع 2018م. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية في العتبة العباسية المقدسة، العراق.
• [6]– Teresa L. Ebert,The Task of Cultural Critique, University Of Illinois Press, Urabana & Chicago, 1951.
• [7]– للتَّوسُّع في الموضوع:
• Donald Swanson, Society, Spirituality, and the Sacred: A Social Scientific Introduction, Second Edition, University of Toronto Press, 2005, Canada: [These Elements are all different dimensions of religion and are numeniferous or vehicles of the sacred] p. 8.
• [8] Cf. Eric Thomson, Coronavirus Vol. 7, 2020
.**************************

*نقلا عن موقع الصالون الثقافي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى