أدب وفن

إبنة الخيشة…بقلم الروائي عمر سعيد

إبنة الخيشة

صوتٌ يصدح مغنياً بالتركية أو الكردية لا أعرف، يقتربُ مني.. يتقدم، وقد وقفتُ أبحثُ عن مصدر هذا الصوت، الذي كان يدنو أكثر مع دنو عربة، تسيرُ عكس اتجاه غروبِ الشمس.

كما لو أنه جروُ كونغرو، وقد علق إلى كتفيه عربة خيشة النفايات التي قسمها من داخلها إلى مستوعبات منفصلة، واحد للورق، وثاني للبلاستيك، وثالث للزجاج، وآخر يضع فيه حاجيات خاصة: ألعاب، ماء، أكياس أطعمة أُحكِم ربطها، وقد عُلقت إلى أسوار البيوت خلف الحاويات.

كان يسير بها ولا تسير به، إذ لم ينلْه من نصيب جرو الكونغرو إلا الملمح الذي يلفت الناظر من بعيد.
ولو أن ساقيه الرقيقتين، قد كانتا بحاجة لانحناءة بسيطة إلى الأمام، لتبدوَ كساقي كونغرو.

يجر خلفه العربة على عجلتين تتوسطهما قدماه، بخيشتها المقسمة المرتبة، التي حوتْ خلفها تجويفاً، يتسعُ لاحتضان شخص بالجلوس بين جنباتها.

تجاوزني الصوت بتجاوز صاحبِ العربة، وصارت مهمة التقاطه موكلة بأذني اليمنى، فإذ بصبية، ترتدي فستاناً أحمر تماهت بقع اتساخه مع بقع الزيت في الخيشة، تربعتْ داخل تجويف الخيشة، تغني، وترفع من وقت لآخر خصلةَ شعرها الأشقر المتدلية من تحت شالها، فوق الجبين.
لم يكن الصوت جميلاً، غير أن المشهد منحه التأثير الموحي.
عاملٌ فتيٌ يعتاشُ على بيع النفايات بعد فرزها، يحمل فوقَ ظهره صبيةً ربما هي اخته، أو أبنته، أو زوجته، تسنده بوجه يشع أملاً مع كل مقطع تغنيه، تحبه، تحثه، فيخطو بعربته كما لو أنه حصان أدركه الغروب بعد يوم حرث طويل.

توقفا للتأكد من خلو الشارع للعبور بسلام.
فوقعتْ عينانا كلتاهما على الأخرى.
فكأني أحد أفراد أسرتها، يلقاها بعد طول غياب..
صاحتْ به فتوقف!
نَزلَتْ تمشي صوبي بفستان لامس وجه حذائها الممزق، دون أن تخسر من سحر إطلالتها الأنثوية شيئاً.
ألقتْ السلام، ثم تحدثتْ، وقد تركتْ للغة الجسد بكفها وأصابعها مهمة الترجمة.
فهمتُ أنها جائعة..
كان لا بد أن أسألَ عن أكياس الطعام في السلة، فأشارتْ إلى كلاب الشارع.
أومأتُ إليها أن ترافقني، فلحقت بي، وقد تبعها العربنجي، إلى أن بلغنا مطعمَ فلافلَ ودجاج. كنت قد قررتُ أن أستمتع بمنظر تناولها الطعام، فبقع الثوب المتسخ لن تخفي أنوثة بدتْ في محياها وشفتيها، وعنقها وصدرها الذي لم يهده الجوع.
تناولتُ وجبتين، قدمتُها لها، فحملتْها وعبرتْ الشارع إلى الرصيف المقابل، حيث ينتظر العربنجي، وقد افترشَ الرصيف.
اتخذتُ من قارورة الماء وعبوتي البيبسي ذريعة لألحقَ بها.
ثم أقعيتُ قبالتهما وقد أسندتُ ظهري إلى جدار مدرسة ابتدائية، كان علمها فوق الباب، يرسل خفقانه كلما هزه الهواء، فيذكرني بحبل غسيل أمي الذي كانت تعقده من غصن التينة إلى غصن التوتة في حاكورة الدار الخلفية.

أخذا يتناولان الطعام، ولياقة مني قمتُ بفتحة عبوة بيبسي، وقدمتها للرجل، ثم هممتُ بفتح الأخرى، لأقدمها لها، لكنها غمغمة بصوتها المكتوم بالطاعم الذي حبسته خلف شفتيها، وأشارت بكفها بألا أفعل.
ثم نهضتْ، وتناولتْ من العربة كوبي بلاستيك، وضعتهما أمامهما، فقام الرجل بسكب ما في العبوة داخل الكوبين، وقد ظلتْ هي تنشغل بالإشارة إلي، وتطالبني بشرب العلبة التي ظلت في كفي، حتى غدت هي المضيفة، وأنا الضيف الذي راح يعز نفسه.

شجعني موقفها على الاستفسار بلغة الإشارة عن العلاقة بينهما، فبدأتُ بسؤال إن كانتْ زوجته، وقد أشرتُ إلى مشهد المحبس في اليد، فنفت.
ثم سألتها إن كانت أخته بمجاورة سبابتي من بعضهما البعض، فنفت.
ولما استشعرتْ أني أصر على معرفة العلاقة بينهما، تناولتْ جوالها وكتبتْ في تطبيق الترجمة، أنها شريكته في العمل. وتلمستْ ارتياحاً في ملامحي بحدسها الأنثوي، لذا كتبت ما ترجمته، هل تفكر بالزواج مني؟!
فأدرتُ وجهي إلى الجهة الأخرى، لأتجنب ما أُسقِطتُ فيه، غير أنها عادت وكتبتْ في تطبيق الترجمة، أن عليً أن أجر بها العربة وهي تغني، إن كنت أنوي الزواج بها، ثم كتبتْ أنها لا تتقن أياً من أعمال المنزل، لأنها ولدت في الشارع، وفي خيشة كهذه.
التزمتُ الصمت، وبغير تعمد مني، عدلتُ حزام حقيبة فوق كتفيّ، ورحتُ أحصي عدد السنوات التي عبرتها تحت هذه الحقيبة المعلقة إلى كتفيً منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، دون أن يشاركني فيها أحد.
ثم رحت أغني: يا مسافر وحدك..
أحاول أن أخبرها عبر صوتي وملامحي، أن الحقيبة بيتي.
وراحت هي تتأملني، إلى أن غيب سواد الليل عينينا، وقد سال منّا وجع مزجته الصدفة إذ جمعتنا معاً: خيشة، وحقيبة، وشارعاً، وليلاً، لا يسهل وصف ما خلفه في جسدي بعد ابتعادنا.

  • من رواية جديدة (تحت الكتابة)

بمناسبة عيد العمال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى