بائع القصائد / قصة قصيرة / بقلم الأديب مكرم غصوب
بائع القصائد
كان ذلك الشاعر الفقير يعشق الحياة، يجلس دائماً في قهوة الزجاج، في الزاوية الضيّقة المطلّة على حلمه، هناك حيث تتّسع الرؤية وتزداد موضوعية، يكتب القصائد، يبيعها لكسب رزقه ويشتريها منه رجال يشترون الحبّ بمشاعر غيرهم.
كم من امرأة حلمت، هامت ورقصت على وقع كلماته موقّعة بأسماء كثيرة، متعددة، إلاّ اسمه…
ولكنّه لم يكتب يوماً إلاّ لواحدة، لها، هي وحدها.
كان يراها، تقترب، تبتعد، يكلّمها بسرّه ولا يكلّمها خوفاً من خيبة الحقيقة. أبقاها حلماً حقيقياً جميلاً، رغائد أمل لغد ربما يأتي. طلّتها، هالتها، ملامحها، مشيتها، ابتساماتها الخجولة، بساتين الرند في عينيها، إشارات كانت تكفيه لينتحر بسلام في بحور الشعر منتشياً بحبرها…
في يوم ربيعي، جاءه رجل ليشتري قصيدة حبّ يريد أن يهديها، بحسب زعمه، لأجمل امرأة في الكون، طالباً يدها. كتب له القصيدة التي كان سيقدّمها لها لو يستطيع طلب يدها للزواج، كتب لها القصيدة ولكنّه لم يعرف أنّها لها، إلاّ بعد فترة قصيرة حين فوجئ بشوارع الحيّ مزيّنة، ورآها ترتدي فستانها الأبيض تذوب في أحضان ذلك الرجل، شعر ببدء موته، غصّة تلو الغصّة تقطّعت شرايين قلبه الذي تركه في تلك الزاوية الضيّقة ورحل يبحث عن زاوية أخرى في مكان بعيد، ينتهي فيه الزمن قبل هذه القصيدة!
أمّا هي فطلبت مراراً من زوجها أن يحبّها بشاعرية، أن يحييها بقصائد كقصيدة الخطوبة. لكنّه كان دائماً يتهرّب، يتحجج بمتاعب الحياة وروتينها حتّى أتى يوم وكانا قد رزقا بطفلة، أخبرها فيه قصّة تلك القصيدة. ذهبت إلى قهوة الزجاج تبحث عنه. أخبروها أنّه كان مولعاً بها وبعد زواجها اختفى!
شاء القدر أن يموت الزوج وأن تربّي وحيدة ابنتها التي تشبهها. مرّت الأيّام، كبرت الطفلة وأصبحت عروساً جميلة ابتساماتها خجولة وفي عينيها بساتين الرند.
أحبّها شابّ، ولطلب يدها فاجأها بقصيدة تعبّر عن عمق مشاعره. ركضت الفتاة، نادت أمّها وبدأت تقرأ على مسامعها شعر حبيبها بحضوره، فخورة به، مزهوّة بإحساسه المرهف. صُدمت الوالدة! انتزعت القصيدة من يد ابنتها وسألت الشابّ عن مصدرها، وبعد إصراره أنّها من وحي حبّه لابنتها أحضرت قصيدتها العتيقة من صندوق أسرارها وقرأت له الكلمات ذاتها، حينها محرجاً باح بسرّه وأخبرها عن بائع القصائد في قهوة الزجاج، في المدينة البعيدة.
- حين أخبرته عن رغبتي في الارتباط بأجمل امرأة في الكون، ووصفتها له، استل ورقة من جيب قميصه كأنّه كان على دراية بطلبي قبل أن أطلب. حاولت دفع ثمنها رفض وقال لي، يا ابني ثمن هذه القصيدة مدفوع سلفاً…الآن فهمت، سامحيني!
- أسامحك إن أخذتني إلى بائع القصائد!
- لكنّه بعيد، في المدينة البعيدة.
- يبقى أقرب منّي إليّ!
إلى المدينة البعيدة، وصل الشابّ برفقة الأمّ وابنتها في مساء اليوم التالي. ذهبوا مباشرة إلى قهوة الزجاج، المطلّة على البحر، حيث يجلس وحيداً في الزاوية الضيّقة، رجل رؤيته جليّة للّحظة الحاسمة.
نظر الشاعر إلى الأم، ثم إلى الابنة من ورائها، كأنّه الوقت سقط من غزارة الروح فانشطر. زمنان في آن، اختلط عليه الماضي بالحاضر، ارتعش قلبه المتروك مقطّع الشرايين في تلك القهوة القديمة ولكنّه ظلّ هادئًا هدوء البحيرات النائمة في الوحدة. - هل عرفتني؟ سألته.
حدّق ببساتين الرند، وظلّ صامتًا. - أنا هي التي كتبت لها في الماضي قصيدة وتزوّجت بسببها… هل فعلاً كتبتها لي؟
حدّق ببساتين الرند وظلّ صامتًا. - هل تكتب لي قصيدة بعد كلّ هذه السنين؟
حدّق ببساتين الرند وظلّ صامتًا. - أرجوك قل شيئاً، تكلّم، فأنا أمضيت عمري أحلم بكلماتك!
حدّق ببساتين الرند وظلّ صامتًا. - أنت مجنون، قل شيئًا أيّها الصامت، لأصدّق أنّك موجود.
حدّق ببساتين الرند وظلّ صامتًا.
وبعد محاولات عدّة، بكت بمرارة، غمرتها ابنتها واحتضنهما الشاب وخرجوا… أمّا هو فظلّ صامتًا وحين رحلوا، كسر قلمه، ومن الزاوية الضيّقة رمى نفسه في البحر.