شركة تنفُّس/قصة قصيرة/ بقلم الروائي محمد إقبال حرب
شركة تنفس
في مستقبل غير بعيد تمكنت القوى الخفية من تلويث الهواء بوباء قاتل لا يمكن القضاء عليه.
تم على أثر الجائحة استحداث خوذة شخصية تشبه الكرة الزجاجية التي يستخدمها رجال الفضاء في المحطة الدولية ISS مع بعض التعديلات للتنفس السليم. كانت الخوذة متطورة جدًا بحيث يتم تزويدها بالهواء النقي بمعدل أنفاس تحسب بالدقيقة من خلال عداد يحسب عدد الأنفاس وكمية الأوكسيجين المستهلكة بدقة متناهية. تحسب كمية الاستهلاك حسب السلة التي شارك بها العميل. لكن السلة الأمثر شيوعًا وشعبية كانت سلة “تنفّس لتعيش”، التي توفر للعميل معدل ١٦نفسا في الدقيقة مع كمية أوكسجين لا تقل نقاوتها عن 98%. استحوذت شركة”تنفَّس” الرائدة في العالم على ٩٠٪ من صناعة تأمين الهواء النقي عبر شركات قاريّة تؤمن اشتراكات شهرية أو باقات فصلية حسب عدد الأنفاس التي يشتريها الزبون.
تخلّف أحد الزبائن عن دفع اشتراكه لفترة طويلة مما جعل الشركة تخفض نسبة أنفاسه إلى معدل أربعة أنفاس في الدقيقة حتى يتمكن من الحياة ولا تُقاضى الشركة على أساس الإهمال أو القتل العمدي. كما أن شرط تزويد كل البشر بنوع من الهواء النقي يضمن استمرارية الحياة للفرد رغمًا عن الجائحة التي لوّثت الكوكب منذ عقد ونيِّف هو شرط الزامي تفرضه الدول على شركة “تنفَّس” لتأمين الحد الأدنى من الأنفاس لأي بشري ضمن حدود الشركة حتى لو لم يدفع المواطن رسوم أي اشتراك في أي سلّة تنفسيَّة.
اتصل مندوب الشركة من المكتب الرئيسي مستغربًا الحالة المثيرة للقلق بالعميل قائلًا: ألو، أنا مندوب شركة تنفس، هل تسمعني؟
صوت ضعيف يرد: نعم اسمعك لكنني غير قادر على الاستمرار بسبب انعدام الهواء.
المندوب: أكيد لن يكون هناك هواء لأنك لم تدفع فاتورتك لخمسة أشهر متواليات.
يرد المواطن بصوت ضعيف لا يُفهم فيقول مندوب شركة ” تنفَّس”: سنعطيك ٢٨ نفسًا مجانيًا كبادرة حسنة من طرف الشركة لنستمع الى شكواك.
ابدأ
العميل: أنا لا أعمل وليس لي دخل، لذلك لا أستطيع دفع اشتراكي الشهري في برنامج “تنفس لتعيش”.
مندوب الشركة: تأخرت عن الدفع لمدة ثلاثة اشهر أيها العميل، لقد تم انذارك بوتيرة يومية لمدة شهرين لكنك لم تفعل شيء، حتى انك لم تتصل لاعادة جدولة الحساب أو تقديم طلب استرحام لتستفيد من برنامج “تنفَّس للمشرّدين”.
العميل: لا أستطيع الكلام او العمل بمستوى اربعة انفاس في الدقيقة.
مندوب الشركة: أنت تعلم أن شركة “تنفَّس” تعمل لتأمين نفس صحي لأكثر من عشرة بلايين بشري، لذلك نحن نهتم بالجميع ليبقوا أحياء. يمكننا حل المشكلة دون اضرار.
العميل: كيف؟
مندوب الشركة: عليك ان تتنازل عن ذاكرتك لصالح شركة تنفس.
العميل: تنازلت عنها من أجل فواتير الماء التي يملكها الحزب الحاكم.
مندوب الشركة: اذن تنازل عن أخلاقك!!!
العميل: سبقتكم شركة الكهرباء التي يملكها الحزب المعارض، لم يعد لدي شيء.
مندوب الشركة: بلى، لديك أيها المواطن الكاذب.
يرد المواطن بصوت متهدِّج: أرجوك اقطع النفس كليًا لا أريد أن أعيش!!! كرهت هواء الخوذة، كرهت الأوبئة المصنَّعة لا وقت لدي للمراوغة. ليتك تفهم كم أشتاق للأمراض الموسمية!!!
المندوب: أنت غريب الأطوار!
المواطن: قلت لك دعني أموت لا أريد أنفاسكم الاستغلالية، البرجوازية الاستعمارية.
المندوب: اسمع لا وقت لدي لسماع صدى كآبتك. عليك أن تتنازل عن كرامتك فنقدم لك باقة ممتازة من الدرجة الأولى لمدة خمس سنوات.
العميل: أنا لا أكترث بعروضكم، دعني أموت… بل أخبرني عن سر ارتفاع سعر الكرامة؟
و….
مندوب الشركة مقاطعًا: كم أنت محظوظ لقد وصلني عرض خاص بالكرامة. تنازل عنها الان وستتنفس مجانا طيلة حياتك. يبدو أن الكرامة شحيحة.
ضحك الرجل حتى استنفذ آخر جرعة من الهواء وهو يقول: كيف أتنازل عما هو غير موجود. فحكومتنا الرشيدة تستأصل كرامتنا منذ الولادة في حفل ديني مقدَّس مثل طهور احتفالات طهور الذكور والاناث في بلاد الشرق؟
مندوب الشركة: لماذا يستأصلونها؟ لا أفهم.
الرجل: يستخدمونها كوقود لحرق ضمائرهم فحرق الكرامة هي المرجل الوحيد الذي يقضي على الضمير. لذلك تجد شعبنا من دون كرامة وحكَّامنا من دون ضمير.
أقفل المندوب الهاتف مذهولًا وخلع العميل خوذة التنفس وأخذ يرقص فرحًا لرائحة الهواء الطبيعي من دون الاكتراث لوباء التلوُّث المميت.
محمد إقبال حرب/شاعر و روائي