كانت أمي تخبز و تصوم/ بقلم الروائي عمر سعيد
كانت أمّي تخبز وتصوم، تحصد وتصوم، وتغسل وتكنس وتطبخ وتصوم.
كانت تجوع وتصوم، تتألّم وتصوم، تحزن وتبكي وتتعب وتحيض وتحبل وتلد وتصوم.
لم تصغِ في حياتها لغير قلبها، وإذا ما حضر التّديّن إلى المجلس، كانت تخلي المجلس، لئلّا تخسر نقاءها وصفاءها بما لا تفهم.
لم أر أجمل من صيامها، لم أرها غاضبة في حياتها معنا بتاتًا.
لم تقم أمّي بنصح أحد منّا، ولم تزجرنا مطلقًا.
كانت تلبّي حاجاتنا، وتضيء عوالمنا بابتساماتها، وتظلّ تصوم وتعمل صامتة مهما علا الخراب.
كان الرّبيع معبد أمّي، تسلّق، وتعكّب، وتنكش، وتزرع، وتحشّ لصغار الغنم، وأظلّ أنا أتنقّل خلفها، بين الكروم، وفي الحقول، وفوق السّفوح والسّطوح.
ولا أعرف إن لأنها كانت أمي، لم أكن أشتم في ملابسها رائحة كريهة.
تظلّ تفوح منها روائح التّراب، والحبق، والخبز، ودخان النّار، والعشب، والبصل الأخضر، والحصيد.
نادرة هي المرّات الّتي رأيت أمّي تلبس فيها قلاشين.
كانت تظلّ طوال السّنة تسير في البيت والدّار حافية.
وإذا خرجنا الى الحقول، لبست مشايّة بلاستيك سوداء، تطوّق ما بدا من قدميها بطوق من حناء التّراب.
كانت إذا تعبت، خلعت المشايّة السّوداء، وجلست أرضّا، وأسندت ظهرها إلى حائط عكش أو جذع شجرة، ومدّت رجليها واضعة قدمها اليمنى فوق اليسرى.
فأتمدّد عند قدميها، وألقي براسي فوق ساقيها، وقد أعطيت وجهي إلى قدميها السّمراوين، النّاعمتين رغم شظف العيش الّذي التصق بها.
أتامّل ذرات التّراب وبقايا العشب الملتصق بهما، ثمّ أميل بفمي، وأقبل يمناها.
فتشهق خجلًا وأنا طفلها الّذي لم يتجاوز السّبع سنوات بعد.
كانت أمّي محرابي الّذي يشعّ رحمة، وقد تلوت فيه كلّ آيات الحبّ بخشوع يليق بصمتها الجميل.
مختارة من رواية “الطّريق إلى عنّايا”
رواية تحت الكتابة