حكمٌ وعِبرٌ من الحجّ يقتضي ان لا تغيب من حياتنا اليومية
حكمٌ وعِبرٌ من الحجّ
يقتضي ان لا تغيب من حياتنا اليومية
بقلم المحامي عمر زين*
نعيش اليوم أيّاماً فضيلة من شهرٍ محرّمٍ، وهي العشر الأوائل من ذي الحجّة، أيّامٌ ذكرها الله في كتابه العزيز بسورة الفجر مُقسماً بها تعظيماً لشأنها فقال: (وليال عشر) وقد قال علماء التفسير لعل المقصود بها هي تلك التي الأيّام التي نعيشها اليوم. فيها يتم الركن الخامس من أركان الإسلام، حجّ بيت الله الحرام.
ما أحوجنا اليوم إلى أن نذكّر أنفسنا ببعض الحكم والعبر من فريضة الحجّ عسانا نُصلِحُ أنفسنا فيُصلحُ الله تعالى أحوالنا ويفرّج عنّا ما أهمّنا وما أغمّنا وما نعانيه في مجتمعنا وبلدنا.
قال الله سبحانه وتعالى: (الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعلوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ ولاَ فُسوقَ ولاَ جِدالَ فِي الحَجِّ) سورة البقرة: آية 197.
فأيّام الحجّ هي أيّامُ أمنٍ وأمانٍ وأيّامُ سِلمٍ وسلامٍ، يأمن فيه كلّ المؤمن على نفسه ومتاعه، ففي الحجّ يترفع الناس عن الأحقاد والأضغان، ويتناسون الشحناء والبغضاء، وينبذون الخصومة والمعاداة، هي فرصةٌ للإخاء وصفاء الذهن والتنزه عن الخلاف والإعتساف والترفع عن الأحقاد، أيّام يدعو فيها المؤمن بدعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحيّنا ربنا بالسلام”. هلا تذكرنا.
فإذا ما شرِع المؤمن بفريضة الحج ونوى الإحرام يتجرّدُ من ملابسه اليومية، مستبدلاً إيّاها بثيابٍ بيضاء لا يدخلها التكلّف والتصنّع والتفصيل والزركشات والتطريزات، ثياب يتساوى فيها الغني والفقير، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، الملك والراعي، الطبيب والمهندس والمحامي والتاجر والموظف، ثيابٌ فيها من الحكم الكثيرة، فيها إخضاع النفس وإشعارها بوجوب التواضع وترك التكبر بالمظهر الخارجي والتعالي على الناس باللبس، فتطهر النفس من درن الكبرياء والغرور. ثيابٌ فيها إعلامٌ للنفس بمبدأ التقارب والمساواة والتقشف والبعد عن الترف المقيت ومواساة الفقراء والمساكين. هلا تذكرنا.
ترى الحجّاج يرفعون الصوت ملبيّن: “لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك” والمعنى إجابةً لك اللهم بعد إجابة، إنقدت لك يا رب، وسعيتُ لك بنفسٍ خاضعةٍ، وإني مُقيمٌ على طاعتك ملازمٌ لها، لبّيك لك يا رب وحدك لا شريك لك. تلبيةً لله وحده، لا للمال لا للجاه لا للحكم والمناصب لا للدنيا وما فيها. فكلّ الحجّاج يتكلمون بموضوع واحد وبكلام واحد وبصوت واحد ولغةٍ واحدةٍ، لا نميمة ولا غيبة ولا بهتان فيها. ما أحوجنا في هذه الإيّام لنبذ ما أستقبح من الكلام، والنطق بما يرضي الله والعباد. هلا تذكرنا.
وفي عرفات، تتجلّى إحدى الحكم العظيمة من الحجّ، فتظهرالمساواة بأسمى صورها، يقف الحجاج من أقطار الدنيا موقفاً واحداً، بلباسٍ واحدٍ، بمكان واحد، لا تفاضل بينهم، ولا تمايز لحاج عن حاج، فيحصل اللقاء والتعارف فيما بينهم، وكأن الناس كلّهم يد واحدة، أمّة واحدة، مجتمع متناسق متآخٍ، الكلّ يعترف لله سبحانه بعظيم فضله وإنعامه، والكلّ يعترف بضعف ذاته وحاجته إلى الله الغنيّ عن العالمين، الكلّ يدعو ويتضرع اليه، الكلّ ينقّي قلبه من التعلّق بالدنيا ومتاعها ومظاهرها الفانية، الكلّ يسعى الى الفوز برضى الله الواحد القهار لا إلى رضى غيره، هلا تذكرنا.
فإذا ما انتهوا من عرفات، طاف الحجاج حول البيت الحرام سبعة أشواط من الحجر الأسود وانتهاءً به، وهو ما يُعرف بطواف الإفاضة، والطواف يتم في عكس عقارب الساعة، وهو نفس اتجاه الدوران الذي تتم به حركة الكثير من المخلوقات في هذا العالم، فالإلكترون يدور حول نفسه ثم يدور حول نواة الذرة في نفس اتجاه الطواف عكس عقارب الساعة وهو ما يتماشى مع دوران بعض الكواكب، فتتناغم حركة الحجاج مع بعض حركة الطبيعة، منه ما هو أصغر حجماّ ومنه ما هو أكبر، فما أعظمها من حكمةٍ، أن تتناسق وتتناغم حركة الأنسان مع الطبيعة، فكلاهما مخلوقٌ، ولا بد من تناسقهم لتستقيم الحياة، والتناغم في سبعة أشواط، كسبعة أيّام الأسبوع، أي كلّ أيام الأسبوع أي في كل أيّام السنة. هلا تذكرنا.
وأما السعي بين جبلي الصفا والمروة، فما أعظمه من ركنٍ، الأصل فيه إحياء لما قامت به أمُّ طفلٍ جائع عطشان في أرض شديدة الحرارة لا ماء ولا طعام ولا أنيس فيها، تركت الأم ابنها الرضيع يتلوى في بطن الوادي أمام أعينها، وصعدت على جبل الصفا علّها تجد الماء أو الطعام أو أي مارٍ يساعدها، فلم تر أحدا، فنزلت منه حتى جاوزت الوادي – بعد أن اطمأنت على رضيعها – ووصلت الى جبل المروة فصعدت عليه ونظرت فلم تر أحدا، ثم عادت أدراجها وفعلت ذلك سبع مرات، حتى جاءها الفرج من عند الله بماء زمزم. وفيه من الحكمة أن المسؤول لا بد وأن يتحمل مسؤوليته ولا يضيّع من يتولى مسوؤليته، وذلك من خلال السعي لضمان أمنه وطعامه وضروريّات حياته، بلا كللٍ ولا تقصيرٍ ولا تراخٍ ولا تغابنٍ ولا تكاسلٍ ولا خيانةِ أمانةٍ، فإن على المسوؤل القيام بواجبه على أتمّ وجه وترك الباقي على الله تعالى، إن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملا. هلا تذكرنا.
وأما رمي الجمرات الثلاث، ففيه الإقتداء بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام، أول المسلمين في زمانه، فإن الحجّاج يقتدوا بأبو الأنبياء عليهم السلام، يقتدون بما قام به من رجم الشيطان بالحجارة في ثلاث مواضع ظهر له فيها ليثنيه عن طاعة أمر الله تعالى، وكما هو معلومٌ فإن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة، وكما هو معلومٌ أيضاً أنّ الشيطان ليس موجودٌ في أحدى الجمرات الثلاث أو ثلاثتها: الجمرة الصغرى أو الجمرة الوسطى أوالجمرة الكبرى “جمرة العقبة”، بل هو رمزٌ وإشارةٌ الى عداوة الحجّاج للشيطان، وبرمي الجمرات يُرجم الشيطان في أنفسنا رجماً معنوياً فلا نجعل له اليها سبيلاً، وإن وسوس لنا بمعصيةٍ فلا نلتفت إليها فلا يكون له علينا سلطان تماماً كما فعل نبيّ الله إبراهيم عليه السلام. هلا تذكرنا.
للحج عِبَر وأحكام لا يسعنا تعدادها وحصرها، ولكن عسى لو نتذكر ونعمل بمقتدى مما تداركناه من تلك الحكم أن تصلح حالنا وتستقيم حياتنا. والله وليّ التوفيق.
*الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب
بيروت في 13/7/2021