أدب وفن

مفاهيم ومعايير من عالم الكتابة (3): «الكلام» و«المَوْسَقَةُ» في الكتابة

الدكتور وجيه فانوس

الكَلِمَةُ، من أبرز المكوِّنات الفرديَّة للكتابة. والكلمة، عند أهل اللغة، هي القولُ؛ والقولُ، عبارةٌ عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم. ولا بدَّ من التَّمييز، ههنا، باعتبار ضرورة حضور «المعنى المفهوم»، بين ما هو كلمة وما هو صوت. فبعض النَّاس قد يخلط بين الكلمة وبين الصَّوت، أَخذاً بعادةِ أنَّ كثيراً من الكلامِ يُعَبَّرُ عنه بالصَّوت.

واقع الحال، إن الصَّوت حينَ يُعَبِّر عن معنى، يُعْتَبَرُ هذا الصَّوتُ كلاماً؛ وحينَ لا يُعَبِّرُ الصَّوتُ عن معنى، يظلُّ الصَّوتُ مجرَّد صوتٍ ولا علاقة له بالكلام.
إنَّ الكلمة، في هذا المنحى، وفاق ما يذكره «محيط المحيط»، للمعلِّم بطرس البستاني، هي ما يُشيرِ إلى أمرٍ من الأمور. وثمَّة من يرى أنَّ الكلمة هي المعنى القائم بالنَّفسِ؛ وهو ما يجدهُ الإنسانُ من نفسه إذا ما أمر غيره أو نهاهُ أو أخبره أو استخبر منه. يتأكَّد هذا الفهم للكلمة، وضرورة ارتباطها بمعنى، وأساسيَّة الكَشف عن هذا المعنى وإظهاره وتوصيله إلى مُسْتَقبِله، أنَّ من مفاهيم الجذر «ك ل م» ما يفيد الجرح والتَّواصل. والقول إنَّ فلاناً من النَّاس كَلَمَ إنساناً آخراً أو حيواناً، يفيد أنَّ فلاناً هذا أحدث جرحاً في جسد ذلك الإنسان أو الحيوان. والجرحُ، بحدِّ ذاته، فعلٌ يؤدِّي، في ما يؤدِّيه، إلى إظهارٍ لِما هو موجودٌ دون مستوى سطحِ ما يجرحه. وهذا يعني أنَّ الكَلْمَ يقودُ إلى الكَشْف. ويُقالُ، من جهة أخرى، إنَّ فلاناً وآخرَ تكالما بعد هجرٍ؛ وهذا يعني أنَّ هذين المُتَكَالِمَيْنِ قد تواصلا بعد انقطاع؛ وهذا يفيد، في ما يفيده، أن في الكلام فائدة تشير إلى التَّواصل.َ
الكلمةُ، إذاً، وجودٌ يقوم على أساسيَّة حضور المعنى، أي حضور بناية مضمونيَّة معيَّنة، موضوعيَّة كانت أو ذاتيَّة، تحتاج إظهاراً لذاتها وبياناً لوجودها كي تَصِلَ من مُرْسِلِها إلى مُسْتَقْبِلِها. وعادة ما تكون أصواتُ حروفِ الهجاءِ أو رسومِها الوسيلة الأغلب للتَّعبير عن هذه البناية المضمونيَّة؛ فتكون الأصواتُ للكلماتِ المنطوقة، كما تكون الرُّسوم للكلماتِ المدَوَّنَة.
رَبَطَ النَّاسُ، في كثير من الأحيان، بين الكلمة وبين وسيلتها الأغلب هذه؛ حتى بات وكأنَّ كلَّ جمعٍ لأصواتٍ أو رسومِ أحرفٍ يَعني، في إدراكِ غير قليلٍ من النَّاسِ، كلمة. ولقد قاد هذا الإدراكُ إلى القول بأنَّ ثمَّة كَلِمَةً أو كَلاماً له معنى، وثمَّة كَلِمَةً أو كلاماً لا معنى له! وهذا خطأٌ، إذ أساس الكَلِمَةِ والكلام حضورُ المعنى أو ما يمكن أن يُسمَّى «البناية الكلاميَّة».

من هنا يمكن، وعلى سبيل المثال، فَهْمُ المُراد من أنَّ الله كلَّم نبيَّهُ موسى؛ فالمقصود المفهوميُّ من تكليم الله لنبيِّه موسى يفيد أنَّ الله أَوْضَحَ معانٍ وأموراً معيَّنةً إيضاحاً ظاهراً وجلِيَّاً وبيِّناً وتفصِيليَّاً لنبيِّهِ؛ ولا يعني أنّ ثمَّة حديثاً قام على إصدارِ أصواتٍ معيَّنة بينهما. وكذلك، يمكن فهم القول بأنَّ السيِّد المسيح هو كَلِمَةُ الله، باعتبار أنَّ السيِّد المسيح قد تجلَّت فيه وبه مفاهيمٌ ومعارفٌ من لَدُنِ الله. وكذلك هو الحالُ في القول إنَّ القرآن هو كلامُ الله؛ فالقرآنُ، باعتبارهِ كلام الله، يعني أنَّه كَشْفُ اللهِ وتبيانه وإظهاره لمعارف وأموراً ونُظُماً من لَدُنْهِ؛ وهذا لا علاقةَ لهُ البتَّة في أنَّ كلامَ اللهِ يقوم على صوتٍ أو أنَّه فِعْلٌ قديمٌ أو مُحْدَثٌ أو سوى ذلك من أمور!
«المَوْسَقَةُ»، من الموسيقى؛ وهي ما يتمثَّلُ في فنِّ صَوْغِ الأنغام وما يلحق به من قواعد وإبداع في آن. يمكن أن تكون المَوْسَقَة، في مجال الكتابة، في صوغ موضوع ما؛ عبر التَّعبيرِ عنه بما يساعد على حُسْنِ تقديمه من قِبَلِ مُرسِلِهِ وحُسْنِ استقبالهِ والتَّفاعُلِ معهُ، بما يخدم الغرض من كتابته. ويُمْكِنُ الملاحظة أنَّ العرب يميلون في قياس ألفاظهم إلى استخدام صيغ أوزان اللفظ «ف ع ل» من دون سواه. وهم، على سبيل المثال، يقولون «كتب» «يكتب» «كتابة» على وزن «فعل» «يفعل» «فعالة»، وهو «مكتوب» و«كاتب»، على وزن «مفعول» و«فاعل». 
يَزِنُ العرب الصَّوغ النَّظميَّ لأشعارهم على معيار «فعل» أيضا؛ فالوحدة الوزنيَّة لنظم الشِّعر عندهم هي «التَّفعيلة»، ومن وحداتها المعياريَّة «فاعلن»، و«فاعلاتن» و«فعولن» و«فعلن» و«مستفعلاتن». يُشير هذا الأمر، في ما يمكن أن يُشير إليه، إلى أنَّ «الفعل» هو مفتاحٌ لفهم التَّذوُّق التَّشكُّلي في صَوْغِ العربيَّة. 
يمكن البناء على هذا بالزَّعمِ أنَّ العرب ترى في الفعل، وليس الاسم أو الحرف، أقوى تجليات الصَّوغ التَّعبيري، ليكون الاسم دونه في القوة، ويلي ذلك ما هو خارج هذين الاثنين من حرفٍ أو سواه. ويمكن الاستخلاص، تالياً، أنَّه إذا ما كان من نظرٍ في تشكُّلٍ تناسقيٍّ ما لصوغ الكتابة بالعربيَّة، فإنَّ في صياغة «الفعل»، وما ينتج عنه من «جُمَلٍ فعليَّة»، يمكن أن يُعتبر الأشد قوَّة من سواه؛ يليه في هذا «الاسم» وما ينتج عنه من «جُمَلٍ اسميَّة»، ليكون «الحرف»، وما ينتج عنه من «شبه جُملة» في أدنى هذا السُّلَّم.

لئن كان مبدأُ صوغُ الأنغام الموسيقيَّة يَنصُّ على تفاعلٍ ما لما يُعْرَفُ بـ«القرار» مع ما يُعْرَفُ بـ«الجواب»، أو ما يُعْرَفُ بـ«الطَّبقة المرتفعة» للجواب، مع تلك «المنخفضة» التي للقرار، ومدى تناسب هذا التَّفاعل مع حال الموضوع الموسيقي المرجو التَّعبير عنه؛ فقد لا يكون من بأس في إسقاط هذا التَّصوُّر التَّنغيمي على صوغ الكلام بالعربيَّة.
من هنا يمكن اعتبار أنَّ الجملة الفعليَّة تقف، في الصِّوغ اللغوي العربيِّ، في موقع «الجواب» من التشكُّل النَّغمي الموسيقيِّ؛ تليها الجملة الأسميَّة، لتكون شبه الجملة في موقع «الجواب» من هذا التَّشكُّل. 
هكذا يكون المجال رَحْباً أَمامَ الكاتبِ للصَّوْغِ التَّنغيميِّ لكتابته في الموضوع الذي يبغيه.
يَعْتَمِدُ الكاتبُ، في هذا المنحى من الكتابةِ، ما يرتأيهِ حِسُّهُ الفنِّيُّ من تسويغٍ لوضع تسلسلٍ مُعَيَّنٍ للأقوى، من عناصر تشكيل ما يكتب، إثر الأضعف، أو الأضعف قبل الأقوى، وسوى ذلك من تفانين الصَّوغ التي تستلهم الإحساس والذَّوق، لتبني منهما قواعدَ عملِها وآليَّاته. وهذا كلُّه يَدْخُلُ في نِطاقِ فنِّ الكتابة أكثر منه في نطاقِ قواعدها وآليَّاتها. 
————–
* دكتوراه في النَّقد الأدبي من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى