أدب وفنمقالات واقوال مترجمة

الذّكرىَ المائوية”لمعركة أنوال المجيدة” 1921-2021-الحلقة –الثالثة عشرة – من – رواية”تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون

الذّكرىَ المائوية”لمعركة أنوال المجيدة” 1921-2021-الحلقة –الثالثة عشرة – من – رواية
“تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”

( سيرة بطل مُجاهد شهيد معركة “أنوال” الماجدة)


الدكتور محمد محمد خطابي


” .. بعد توقّفه في قرية ” بوكيدارن” قليلاً، استأنف (مُوح) المسير نحو بلدة ” إمزورن” ، وشعر أنّ دابّته قد استرجعت قوّاها، وأصبحَ وقعُ صفائح حوافيرها على الأرض يُسمع بشكلً أكثر حدّةً وثباتاً من ذي قبل ، كان بعض المتسوّقين الذين ذهبوا قبله للسّوق قد قضوا منه كلَّ حاجةٍ ،وهم الآن عائدون الى دُورهم ، وبيوتهم، ومداشرهم حيث كانوا قد قدِموا في الصّباح الباكر إليه من كلّ صوبٍ وحدبٍ، ومن كلِّ فجٍّ عميق.
كان الطريق مُغبَراً ،وكانت حوافر دابّته تثير النقع حوله بدون انقطاع ،وكان العَجاج يبدو وكأنّه سحابٌ داكنٌ، دانٍ، مُسفٌّ ، متدلٍّ يقترب من الأرض، ويملأ الجوّ ، وينتشر حوله ،كانت الحشائش الخفيفة تتطايرأمام عينيْه كلما هبّت الرّياح الدافئة المُحمّلة بالأتربة الدقيقة ، وكانت في أوقاتٍ أخرى تهدأ في أماكن بعينها خاصّة بين انفراجات أشجار الإوكاليبتوس العالية المُصطفّة المغروسة على جانبيْ الطريق، حيث كانت نسمات الصّبَا القادمة من ناحية البحر – الذي لم يكن بعيداً عنه – تلفح وجهه ،كان (مُوح) يشعر جرّاءها بانتعاشٍ لطيف يخفّف عنه رَمَضَ القَيْظِ ، وشِدَّةَ الحَرِّ اللذيْن كانا مُستعريْن في ذلك اليوم.
كانت قوائم الدَّابة تنزل على الأرض بشكلٍ متواترٍ رتيب ، وتخبط خبط عشواء على أديم الثرىَ وهي تسير، وتسير بدون توقّف، وكلما جذب (مُوح) رسَن الدَّابَّةَ، وشَدَّ إليه زمامَها ولجامها كانت تزيد في وتيرة مشيها .
بينما كان( مُوح ) يسرح بفكره ليتذكّر كلّ الحاجيات التي أوصته أمّه باقتنائها من السّوق ، سمع على حين غِرّة، وبشكلٍ مُفاجئ طلقة بارود تشبه طلقات بندقيته ، أوقف الدابّة على عجَل ، وانزوىَ بها تحت ظلّ شجرة خرّوب عظمىَ كانت أغصانُها وثمارُها تتدلّى مُعلقة في الهواء فكانت تحجب الرؤية نوعاً مّا ، ربط الدابّة إلى غصنٍ سميك من الشجرة، وقف وراءها وهو يستطلع بنظره هنا وهنالك ليرى ماذا كان يجري بعد سماعه تلك الطلقة القوية المدويّة التي كادت أن تصمّ أذنيْه ،تبيّن له حينئذٍ أنّ مصدر الطلقة لم يكن بعيداً عنه ، تنفّس الصّعداء ، واسترجع أنفاسَه وهدوءَه عندما انتهى اليه صوتُ شابٍ في مقتبل العُمر يكاد أن يكون له نفس سنّه قادماً من ورائه وهو يقول له :
لا عليك يا أخي ، يمكنك مواصلة طريقك، فأنا أقتفي سرباً من الحُجُول اختفىَ بين أغصان شجرة الخرّوب الأخرى التي أمامك في الجهة الأخرى من الطريق ، وعلى الرّغم من أنني أتعقّبه منذ حوالي السّاعة لم أتمكّن من إصطياد ولو حجلة واحدة حتى الآن ، ولقد رأيتَ كيف أخطأتُ التسديد من جديد لأنّ الحجلة كانت تطير على مستوىً منخفض من الأرض، وهي تشكّل مُنعرجات في طيرانها .
كان الشاب الصيّاد يبتسم وهو يتحدّث إلى (مُوح ) الذي جرّ الدابّة في هدوء الى عرض الطريق وركب عليها من جديد ،ودعا للشاب بالتوفيق، وحُسن الحظ في المرّة القادمة مُحييّاً إيّاه بيده اليمنى ، ومُمسكاً بيده اليسرىَ لجام الدابّة.
استأنف المسير ،وتحوّلت ابتسامته إلى ضحكة خفيفة وهو يقول في نفسه :
لابدّ أنّ هذا الشاب ما زال في حاجة الى مزيدٍ من التدريب والمراس على ما يبدو .
عاد الى صرامته ،وهدوئه وواصل طريقه لا يلوي على شيء ، وما زال يدور بخَلَدِه أنّ عزاء ذلك الشاب الصيّاد في عدم اقتناصه للحجلة كونه ما فتئ فعلاً في طور التدريب، وأنه حتماً سيواصل الممارسة و لابدّ أنّه مُدركٌ في يومٍ مّا إتقان فنون الصّيد والتسديد .
بعد فترة وجيزة وصل (مُوح) إلى سّوق السّبت الأسبوعيّ ببلدة إمزورن الذي يوجد على يسار مدخل المدينة ،نزل من على ظهر دابته وربطها إلى جانب بقيّة الدوابّ الأخرى التي سبقه أربابها إلى السّوق قبله ،ثبّت طاقيته في رأسه، وأدخل مِخلاته الصّغيرة تحت جلبابه،وشدّ عليها حزامه، ودلف إلى ذلك العالم الغريب المتلاطم الذي كانت تتراءىَ له فيه عشراتٌ من الوجوه الغريبة التي لم يرها قطّ من قبل في حياته، ولم يكن يسمع في هذا السوق الغارق في الإكتظاظ سوىَ دويُّ، وطنين، ورنين همهمات متداخلة عالية من الصَّخَب ،والدَّأب ، واللَّجَب ..” ..(يتبع) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى