رسالة إلى أمي…بقلم الروائي عمر سعيد
أراك بين الذين أتوا يا أمي.
كل أتى إلى غايته، وحدك أتيت لأجلي.
أراك، وقد حضرت بكل الأمس الذي لا زال لنا وحدنا، أنا وأنت، كلما انتبذت لنا ركنًا قصيًا!
هل تذكرين يا أمي، أيام كان يفوح النعناع من كيفيك؟!
كنتُ يومها صبيًا، وكان التفاح يسيل سكرًا من خديك، إذا ما أقبلتُ معانقًا.
أتذكرين يوم كان حضنك يتسع ليّ، أيام كنت تطوقينني بذراعين يحدها الحب أنى لفتنى؟!
كبرت يا أمي، وكان علي أن أختار بين أن أراك وقد حملت هذه الصورة، وبين أن أراك وقد جمعت ما لنا في حقيبة، ثم وقفت تمسحين بدمعك حبق الدار، وعطرتها..
وقبل أن تصل الطلقة الى قلبينا، اخترت الأولى.
اخترت الأولى يا أمي لئلا أموت، فتموتين.
أعلمُ يا أمي أنك كنت تعرفين الدم الذي كان فوق قميصي.. ولكم عاتبت صحبي في أحلامهم، لأنهم لم يحفظوا الوصية، وقد كنت أوصيتهم بأن يدفنوني حيث أسقط، لئلا أراك ترين دمك فوق قميصي، غير أنهم خذلوني.
لم يخذلوني خيانة، بل فعلوا ذلك لانهم كانوا يكرهون أن أكون الجندي المجهول، إذ ليس منا من يموت مجهولًا، ونحن نموت ليحيا الوطن.
اخترت الأولى يا أمي لئلا نسجى معًا في قبر واحد، ولئلا أظل طفلًا، وتظلين أمي التي لا تستطيع أن تتخلى عني لتشيخ.
حين وصلوا بجثتي إلى الدار يا أمي، فكرت كثيرًا بالنهوض كرمى لعينيك، ولكم حاولت البكاء، لكني خشيت عليك من بكائي في التابوت، فتمسكت بموتي لئلا يعيروك بفراري من الموت، تمسكت بموتي لئلا ينزعوا عنك لقب أم الشهيد.
فأعظم ما أنجزته لأجل عينك كان هذا اللقب.
لست سعيدًا في موتي يا أمي، لأني أموت كل يوم ألف مِيتة بوفاء الأمهات اللاتي يلتقينك كل عام، وقد أتينك مهنئين.
لذا أظل كل عام أعاتب نفسي لأني ما أنجزت ما يليق بطرفك الكسير..
إليك أمي حاولت أن أهدي هذا الوطن، فعذرًا إذا كنت ما أتقنت لف الهدية..
عذرًا منك أمي، عذرًا من نعناع كفيك الذي لا زال يفوح، ومن ريحان قبري الذي لا زال يفوح، وعذرًا من حبق الدار الذي خلفتُه، لا يرتوي إلا من دمع عينيك.
عذرًا أمي.. وكيف أهديك وطنًا وأنت وطني؟!