صراع الشّعب في لبنان
بين مساعي تفريغ الشّبكة الحاكمة له من إمكانيّاته المنتجة أو تفريغ الوطن منه
صراع الشّعب في لبنان
بين مساعي تفريغ الشّبكة الحاكمة له من إمكانيّاته المنتجة أو تفريغ الوطن منه
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس ندوة العمل الوطني)
ثَمّةَ بَغْيٌ لا لَبْسَ فيهِ، تُمارِسُهُ هذه الشّبكةُ المُمْسِكَةُ بزِمامِ السّلطةِ في لبنان، والمتواطِئَةُ في ما بينها؛ تجاهَ عامَّةِ الشَّعبِ، مِمَّن تَتَحَكَّمُ بمصائرِهِم، عَبْرَ ولائِهِم لها، ومَعَهُم غالِبِيَّةُ النَّاسِ القابِضَةُ على مصادِر عديدةٍ لِمعايِشِهِم وشُؤونِ حياتِهِم. يَقومُ هذا البَغْيُ على تَعَسُّفٍ فاجِرٍ؛ يُذَكِّرُ بالاستِبْدادِ الطّاغي، الذي شَهِدَهُ النَّاسُ في أوروبا، مِنْ قِبَلِ كَثيرٍ مِن حُكَّامِها وإقطاعِيِّها وحاملي ألقابِ النُّبلِ مِنْ أَهلِ السَّطْوَةِ والنُّفُوذِ فِيها، زَمَنِ العُصُورِ الوُسْطى. إنَّهُ البَغيُ الذي ما كانَ لَهُ أنْ يَستمِرَّ في طُغيانِ فُجُورهِ، لَوْلا سُوءِ القائمينَ عليهِ والخُبْثِ الوُصُولِيِّ لِمُؤيِّدِيهِم؛ وما كانَ لهُ أنْ يَتلاشَى، لاحِقًا، لَوْلا انتِفاضاتٍ ثَوْرِيَّةٍ قامَ بِها الشَّعبُ، بِرِعايَةٍ صادِقَةٍ وحِمايَةٍ واعِيَةٍ ودَعمٍ مَسؤلٍ مِن نُخَبِهِ الثّائِرَةِ، وتَنْسيقٍ لَهُ مَع قِياداتٍ فِكريَّةٍ وسِياسِيّةٍ، وحتّى عَسْكَرِيّةٍ، مُؤمِنَةٍ بِالحَقِّ الإنْسانِيِّ العامِّ بِالعَيْشِ الكَريمِ والحُرِّ ورَخائِه؛ ناهِيكَ بما تَعرَّضّ له كثيرونَ مِن أَفرادِ هذا الشَّعبِ مِن اضطهادٍ وسجنٍ وتَعذيبٍ وتَشْريدٍ وقَتْلٍ.
لَئِنْ كانَ اللهُ، سُبحانَهُ وتَعالى، {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرَّعد:11)؛ فلقد باتَ مِن الجَلِيِّ، الذي لا جِدالَ فيهِ ولا خِلافَ علَيْهِ، أنَّ هذهِ الشَّبكةَ، المُمْسِكَةَ بِزِمامِ السُّلْطَةِ في لُبنانَ، مُنذُ عُقودٍ مَديدَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وعَبْرَ عُهُودٍ مُتعاقِبَةٍ مِنَ الهَيْمَنَةِ على مقدّرات التّشريع والتّنفيذ، مع تَمَكُّنِها على الإفلاتِ المُطلَقِ مِن المُحاسَبَةِ الفِعلِيَّةِ على المَسؤُولِيَّةِ النَّاتِجةِ عن أَعمالِها وقَراراتِها وارتِباطاتِها ومُرْتَكَباتِها؛ قد ارتأت أنْ لا بُدَّ لها مِن العملِ الدَّؤوبِ والمُنَظَّمِ، لِتَغْييرِ هذا الشَّعبِ؛ وذلكَ كَيْ لا تَفقُدَ، عَبْرَ أيِّ وَعيٍ عَمَلِيٍّ لهُ، ما تَحُوزُهُ سَعِيدَةً، حَفيدًا عَن والِدٍ عَن جَدٍّ، وأحيانًا عَن والِدِ هذا الجَدِّ، مِن نُفوذٍ ومَكاسِبَ على حِسابِهِ، ومِن جَنى مُكابَداتِهِ الدَّائِمَةِ في العَمَلِ لِتَحصِيلِ رِزْقِهِ.
يُشِيرُ تَوالي الأَحداثُ الكارِثِيَّةِ المُتَسارِعَةِ، التي ما فَتِئَت تَلُمُّ باللُّبنانِيينَ، خلالَ السَّنواتِ الأَخيرَةِ، وبِشَكْلٍ فاحِشٍ وسافِرٍ ودامِغٍ وثابِتٍ، إبَّانَ السَّنَتَيْنِ ونصفِ السَّنَةِ المُنْصَرِمَتَيْنِ، إِلى أنَّ أَهلَ هذهِ الشَّبَكَةِ، نَجَحوا في تحقيقِ ما صارَ يَعقُبُ كُلَّ واحِدٍ مِن هذهِ الأَحداثِ؛ وهو الأمرُ الذي يُقَرِّرُ حَقِيقَةَ نَواياهُمُ السَّيِّئَةِ ودَخائلَ نُفوسِهِم الشَّرِهَةِ. ولَئِن كانَ في هَذا ما يُبيِّنُ طَبيعَةَ اِسْتِهانَتِهِم العَمَلِيَّةِ بالشَّعبِ، وصدقَ اِسْتِخفافِهِم بِوَعيِهِ، واسْتِصغارِهِم لِفاعِلِيَّةِ إدراكِهِ لِمصالِحِهِ، وهُزْئِهِم مِن قوَّةِ إمكانِيَّاتِهِ على الرَّفضِ والثّورَةِ.
إِسْتَلَبَت هذهِ الشّبكةُ المُمْسِكَةُ بِزِمامِ السّلطةِ في لُبنانَ، الغالِبِيَّةَ العُظمى مِن حُقوقِ الشّعبِ، بقرراتٍ غير دستوريَّةٍ وهيمناتٍ لنفُوذٍ غيرِ قانونِيٍّ وإنفاذٍ غيرِ سَوِيٍّ لتوجيهاتٍ رسمِيَّةٍ، ناهِيكَ باستِغلالٍ مُخاتِلٍ خَبِيثٍ لِمساعداتٍ خارجِيَّةٍ ؛ فَسَلَبَت مِنْهُ كَثيرًا مِنْ مُقَوِّماتِ العَيْشِ الكريمِ، وأَفقدَتْهُ أُصولَ الأَمْنِ الاقتِصادِيِّ، ومَنَعَت عَنهُ عَوامِلَ تَوْفِيرِ الضَّمانِ العامِّ؛ وذلكَ في كَثيرٍ مِنَ المجالاتِ الصُّحِّيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ والتَّعلِيِميَّةِ. وكانَ أنْ حَفلَت هذهِ السَّنواتُ جَمِيعُها، بِعَربَدَةٍ مُنْحَطّةٍ لِعُهْرٍ سِياسيٍّ، مارَسَتْهُ هذهِ الشَّبَكَةُ؛ مِا دَفَعَ بالشّعبِ إلى أنْ يُقاسِي أَهْوَالًا لا طاقَةَ وُجُودِيَّةَ لهُ على مُعاناةِ صُنُوفِها الدَّنِيئَةِ والوَبِيلَةِ، ولا مَنْطِقٍ يَمْتَلِكهُ للاسْتِمرارِ في الصَّبرِ على عَواقِبِها القائِمَةِ على خَيْباتِ الأَمَلِ الشَّعبِيَّةِ والوَطَنِيَّةِ الكُبْرى. ولقد تَأَكَّدَ، تالِيًا، بِالاسْتِدلالِ المَلْمُوسِ، حُصولُ نَتائِجَ مُفجِعَةٍ، عاشَها كثيرٌ مِن القَوْمِ في لُبنانَ، على مُختلَفِ المُعتَقداتِ الدِّينيَّةِ والمَذْهَبِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ وتعدُّدِ الانْتِماءاتِ المَناطِقِيّةِ لَهُم، مُتَكَبِّدِينَ وَيْلاتها؛ كَما تَحَصَّلَ لَدى عَديدٍ غالِبٍ مِن المُراقِبينَ الدَّولِيينَ، سُؤُ ما تُقومُ بِهِ هذهِ الشَّبَكَةُ، وعِظَمُ ما يَنْتُجُ عَن أَعمالِها مِن تَخريبٍ لِطاقاتِ البَلَدِ وإِمْكانِيَّاتِهِ. وما كانَ، من إِجْماليِّ هذهِ المَسْلَكِيَّةِ، مِن قِبَلِ رؤوسِ هذهِ الشَّبَكَةِ، إلاَّ أنْ تَطالَ، بِصفَاقَةٍ ولُؤْمٍ وسَفاهَةٍ، سُبُلَ عَيْشِ الشَّعبِ اللّبنانيّ بُرَمَّتِهِ؛ رامِيَةً بِهِ فِي مَهاوي العَوَزِ، ومُقصِيَةً لَهُ إِلى أَغْوارِ الانْحِطاطِ؛ حَيْثُ لنْ يَجْني، في صَحاري ضِيقِ الأفُقِ التي صارَ إِلَيْها، غَيْرَ مَذَمَّةِ الذُّلِّ وشَظَفِ العَيشِ الزَّهِيدِ والحَقِيرِ.
كَانَ للفاعليّةِ التَّحفيزِيَّةِ، لِهَذِهِ الأَوضاعِ جمِيعُها، أنْ دَفَعَتِ الإِحساسَ والوَعيَ الشّعبِيَّيْنِ العامَّيْنِ، والرُّؤَى الثّقافِيَّةِ النَّاضِجَةِ، والاهْتِمامَ الاجتِماعِيَّ الوَطَنِيَّ اليَقِظِ والمَسؤُولِ، إلى حُصولِ حالاتٍ جَمْعِيَّةٍ مُتغالِبَةٍ بَيْنَ الشَّعبِ؛ مِنَ القُنُوطِ المُسْتَشْري مِن الصَّلاحِ الوَطَنِيِّ لِهَذِهِ الشَّبَكَةِ، ومَوْجاتٍ مُنْفَعِلَةٍ مُتلاطِمَةٍ مِنَ الغَضَبِ المُقِيمِ، مَع اندِفاعٍ مُلِحٍّ لِلتَّوَجُهِ إلى سُلوكِ دُروبٍ ناقِمَةٍ لِلرّفْضِ الغاضِبِ، والسّعيِ إلى الرَّفضِ والثّورةِ، على كلِّ هذا البُؤسِ الاسْتِضعافِيِّ والفَجائِعِيِّ. تعالَت، عِنْدَئِذٍ، صَرَخاتُ الاحتِجاجِ على هَذا الوَضْعِ، وأَذاعَ قِسْمٌ مِن ناسِ هذهِ القُوى بَياناتِ أطلقَ صرخاتِ الإِسْتِنْكَارِ وهتافاتِ الإِعْتَراضِ، كما عَقَدَ، قُسمٌ آخر، نَدواتُ البَحثِ في هذا السُّوءِ، تَحليلًا لجَوانِبِهِ وتبيانًا لعوامِلِهِ، مع ما أمْكَنَ مِن دِراساتٍ لِمجالاتِ التَّوجيهِ إلى ما يُمَكِّنُ مِن تَجَنُّبِهِ؛ وكانَ مِن القَوْمِ، أَيْضًا، مَن لَجأ إِلى التَّظاهُر الجماهِيرِيِّ الغاضِب، مُعلِنِينَ عَدَمَ القَبُولِ الشَّعبيِّ بِهذا الحالِ، ومُؤَكِّدِينَ مَواقِفَ معارَضَتِهِم الوَطَنِيَّةِ لِلعامِلِينَ عَلَيْهِ والسَّاعِينَ إلى حِمَايَتِهِ.
مَا كانَ مِنِ ناسِ هذهِ الشَّبَكَةِ، وقد واجَهَتْهُم، قُوىً وتَجَمُّعاتٌ شَعبِيَّةٌ هادِرَةٌ، بِرَفْضِها لِما أَوْصلوا النَّاسَ إليهِ في لُبنانَ؛ وصارَ، في الوَقْتِ عَيْنِهِ، أَنْ ناقَشَ نَتائجَ مُمارساتِ هذهِ الشَّبَكَةِ، أُناسٌ أَصحابُ أَفكَارٍ ثَقَافِيَّةٍ وسِياسِيَّةٍ مُتَنَوِّرَةٍ، مُبّيِّنينَ ضّرورةَ وَقْفِ هذا الحالِ ومَساوِئِهِ القاتِلَةِ لِما هُوَ وَطَنِيِّ؛ إِلى أنْ يُدركَ ناسُ الشَّبَكَةِ أنَّهُم أَوْصَلوا أَنْفُسَهُم إِلى بِدايةٍ لِنِهايَةٍ مُدْلَهِمَّةِ العَتْمَةِ ومُنْهَزِمةِ الرَّجاء، للدّربِ المُنْحَطِّ والفاسِدِ والدّنِيءِ المَسْدُودِ، في مَسِيرَةِ الوَطَنِ التي تَنَطّحُوا لِلاسْتِيلاءِ عَلى مُقدَّراتِها؛ وأنّهم، لا مَحَالةَ، سَيَبْلُغونَ ما يَسْتَوجِبُ لَهُمُ مِنْ إِجْتِثاثٍ مِنْ مَراكِزِ قُوَّتِهِم ومَطارِحِ سُلْطَتِهم، ِانْتَهاءً بأشخاصِهِم وتابِعيهِم إِلى عَاقِبَةِ بُؤسٍ مُهِينٍ ومُسْتَنْكَرٍ، وعارِ ذِكْرٍ مُخْجِلٍ ومُحنَقَرٍ، و شَقَاءِ مَصيرٍ خَسِيسٍ ومَعِيبٍ.
اِنْطَلَقَ ناسُ هذه الشّبكةُ، مِن هذا الرُّؤيةِ لِما قد يؤولُ إليهِ أمرهُم، جرّاء غضبِ الشَّعبِ وثورتِهِ على ما يقومونَ به تجاه الوطنِ وتجاهه؛ بما يوحي بأنّ لا بُدَّ لهم مِن اِتِّخاذِ رَدَّةِ فِعلٍ لَهُم، في الدّفاعِ عن وُجُودِهِم والحِفاظ ِعلى مَكاسِبِهِم وثَرواتِهِم وعَلاقاتِهِم الاستِغلالِيّةِ. ويَبدو وكَأنَّ هؤلاءِ أَدرَكُوا أَنَّ لاجَدوى سَيَحصَلونَ عَلَيْها مِنْ بَقاءِ قُدْرَةِ لِلشَّعبِ على الاحتِجاجِ الغاضِبِ ضِدَّ وُجُودِهِم؛ وتَنامِي بُذورِ الثَّورةِ المُشْتَعِلَةِ، في مَشاعِرِهِ، تجاهَ ما يُعانِيهِ مِن عَسفِهِم وسَفَهِهِم، مَع بُروزِ نِداءاتٍ مُتواصِلَةٍ للاحتِشادِ ضدَّهُم، داعِيّةً إِلى تَفعيلِ مَزيدٍ مِنَ الوَعِيِ الوَطَنِيِّ، صَوْنًا لِلوَطَنِ وخَلاصًا مِن استِغلالِهِم لَهُ. وقد يَكُونُ، والحالُ كَما حَصَلَ بِالفِعلِ، أَنَّ بعضًا مِن رُؤوسِ هذهِ الشَّبكَةِ وقادَتِها، ارتأوا أَنْ لا بُدَّ لَهُم مِنْ سَعيِّ ما إلى إفراغٍ ما لِلوَطَنِ مِن طاقاتِ شَعبِهِ وقُدُراتِهِم على الرَّفضِ والثَّورةِ. ولَعَلَّ في هَذا جَميعِهِ، وَمِنْ كَوْنِ لبنانَ، طالَما شَكَّلَ مَوْقِعًا سياسِيًّا استِقطابِيَّا لِكَثيرٍ مِن التَّوجُّهاتِ السِّياسِيَّةِ الدَّولِيَّةِ؛ ما يَدفَعُ بجَشَعِ بَعضِ ناسِِ هذهِ الشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بِزِمامِ السُّلطَةِ والنُّفُوذِ فِيهِ، إِلى عَقدِهِم لِتَحالُفاتٍ ضِمْنِيَّةٍ مَع جِهاتٍ خارجِيَّةٍ، تَرى مِنَ المُفِيدِ لِإِحداثِها تَحَوُّلاتٍ سِياسِيَّةٍ ما في المَنْطِقَةِ، ضَرورَةَ إحرازِ تَعْوِيقٍ ما للقُدُراتِ المُنْتِجَةِ في لُبنان، تَمْكِينًا لِلقَرارِ السِّياسِيِّ فِيهِ، لِيَكونَ في مَوْقِعِ المؤازرةِ لِلقَبُولِ بِهَذِهِ التَّحَوُّلاتِ.
هَلْ لِمَضمُونِ هذا الاحتِمالِ، أَنْ يَكُونَ واقِعًا؛ وهَلْ يُمْكِنُ، تالِيًا، لِهَذا الشَّعبُ، أَنْ يَسْمَحَ بِإِفْراِغِ وَطَنِهِ مِنْهُ ومِنْ قُدُراتِهِ؟