أيّامٌ مع العلّامة السيّد محمّد حسن ترحيني
أيّامٌ مع العلّامة السيّد محمّد حسن ترحيني
د. محمّد حسين بزي [1]
تعرّفت إلى العلّامة السيّد محمّد حسن ترحيني (1953-2022)[2] في بيروت أواخر ثمانينيات القرن الماضي في منطقة وادي أبو جميل “وادي اليهود”، التي أصبحت سوليدير فيما بعد، وذلك عند قريبه السيّد عدنان ترحيني (أبو عبد)_الذي هاجر إلى ألمانيا لاحقًا_، وكنت يومها يافعًا وفي معيّة عمّي الحاج سهيل حسين بزي (أبو سامي) الذي كانت تربطه بالسيّد صداقة مميّزة، وصلت حدّ الصحبة شبه الدائمة عندما يكون السيّد في بيروت؛ أستاذًا في المعهد الشرعي الإسلامي في منطقة بئر حسن[3] ، أو ضيفًا على قريبه (السيّد عدنان ترحيني).
كنّا يومها رهط (دون عشرة أشخاص) من الشباب اليافع المندفع المتحمّس، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ أكرم بركات، حسين عسيلي، هشام زلزلي، محمّد خير بزي، شوقي بزي..[4]، يومها كنّا نكثر من الأسئلة التي لا تخلو من علامات استفهام أو استغراب متصلة بالسياسية وبالفكر وحتى بالفقه؛ وأكثرها كانت تدور حول الأفكار الثورية، والتيّارات الفكرية المعاصرة، ومفاهيم المقاومة والتنوير وولاية الفقيه، خاصة أنّ السيّد عايش معظم ظروف الثورة في إيران[5]، وشهد انتصارها وتبلوراتها وتسارعها الدراماتيكي، وما صاحبها من انقلاب للبنى الفوقية للدولة القومية، التي سرعان ما تحوّلت إلى مؤسّسات ثورية تقوم مقام الدولة إلى حين. وعاصر السيّد ترحيني اغتيال كثير من كوادر وقادة الثورة مثل بهشتي ورجائي ومطهري وباهنر ومفتح؛ وقبلهم علي شريعتي (لندن 1977)، كما شهد معظم الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها على الداخل الإيراني، الأمر الذي جعلنا نشدّ السعي إليه كلّما سنحت الفرصة، فكان بالنسبة لنا شاهد حال لتساؤلاتنا وأسئلتنا، إضافة لكونه عالمًا نِحريرًا، وأهم أمر أنّه كان يستمع إلينا، إلى هواجسنا، ويحترمها، وأحيانًا كان يشكرنا على السؤال.
كنّا في غمرة الشباب وفورته، وكانت أسئلتنا عفوية تلقائية حينًا، لكن أيضًا، كانت تصل إلى أعماق السياسة الإقليمية والداخلية اللبنانية، وما صاحبها من تدافع للأزمات والنكسات أحيانًا أخرى، وكان صدر السيّد يتّسع لكلّ ما تقدم، بمحبّة واضحة وتواضع جم وحكمة مشهودة، ودائمًا ما كان يختم بنصيحة مُنبِّهة، لكنّنا، غالبًا ما كنّا لندركها إلّا بعد حين.
وممّا شجعنا على طرح الأسئلة أكثر وأكثر؛ أنّنا علمنا بأنّ السيّد ترحيني من محبّي ومشجعي كرة القدم، الأمر الذي أغرانا أنّ السيّد رجل دين مختلف، حسب مفهومنا عن رجل الدين في ذلك الوقت، وأذكر أنّه في ليلة قد استأذن بعدم الإطالة بسبب وجود مباراة سيبثها التلفاز، وأنّه ينتظر مشاهدتها.
وفي جلسة من تلك الجلسات سأله العم (أبو سامي) عن كيفية معرفة المجتهد من علماء الدين؟
قال السيّد: شهادة المجتهد بين فكّيه، بمعنى إذا ما تكلّم أمام أهل العلم يعرف اجتهاده من كلامه، بغض النظر عن الشهادات العرفية الممنوحة له من مراجع التقليد أو كبار المجتهدين.
وممّا أذكره، السجال الذي دار بعد فترة من صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 عام 1987 القاضي بإنهاء الحرب العراقية الإيرانية، والتي توقفت فعليًا عام 1988، حيث كنّا نقول وبضرس قاطع: إنّ الإمام الخميني لن يوقف الحرب قبل انهاء حكم صدام حسين في العراق.. فتبسّم السيّد حينها، وقال: ما دام الشيخ رفسنجاني حيًّا فالحرب حتمًا ستتوقف، وأسهب في شرح موجبات وضرورات إنهائها بحكم معرفته العميقة بالواقع الإيراني. وبعد فترة وجيزة فهمنا مغزى كلام السيّد في إشارته للشيخ رفسنجاني، وفهمنا لاحقًا أنّ الشيخ رفسنجاني هو الذي أقنع الإمام الخميني بالموافقة على إنهاء الحرب.
وتوالت الجلسات مع سماحة السيّد ترحيني ولو بشكل غير منتظم، وغالبًا ما كانت تعقد بعد المغرب في منزل قريبه السيّد عدنان، وفي إحداها وجّهتُ سؤالًا لسماحته: إنّ العم (أبو سامي) يقول على سبيل الاستنكار: “إذا أنا صرت خليفة للإمام الخميني يبقى الشيخ منتظري خليفة له”، فما رأيكم سيدنا بهذا الكلام؟ فتبسّم السيّد على عادته قبل الإجابة وقال: “إنّ أبا سامي يملك من عمق التحليل السياسي والاستراتيجي ما يجعله في مصاف كبار المحلّلين، وأضاف: عندما سقط أول صاروخ عراقي في حرب المدن الأخيرة[6] على إيران؛ قال لي: “سيد هذا الصاروخ يحمل رقم 598″، في إشارة منه إلى رقم قرار مجلس الأمن الدولي. وتابع السيّد: “وبما أنّ أبا سامي قال ما قال في الشيخ المنتظري فلكم أن تتوقعوا الإصابة من كلامه”..! بصراحة أنا يومها لم أقتنع بهذا الكلام، بل انفعلت ودافعت مع رفاقي عن الشيخ المنتظري وجهاده وتضحياته فضلًا عن علمه وتقواه، فنصحنا السيّد على عادته بالتروّي والحكمة والواقعية في مقاربة الأمور بدلًا من التحمّس والتعصّب والانفعال، وفعلًا ما هي إلّا أشهر وتمّ عزل الشيخ المنتظري من جميع مناصبه ومسؤولياته عام 1989، ورسالة الإمام الخميني الشهيرة لا تزال في أذاننا حتى اليوم.
وتمضي الأيام، وتتوالى الشهور حتى دخلتُ عالم النشر عام 1991، ولم تنقطع لقاءاتي مع السيّد، ولكن لم تعد مع رهط من الأصحاب بقدر ما كانت لقاءات وزيارات شبه خاصة، وبمعيّة العم (أبو سامي) طبعًا، وعلى ذمّة دفتري الذي كنت أدوّن فيه أهم الأحداث[7]؛ فقد زرنا السيّد في المعهد الشرعي الإسلامي، وبعد فراغه من الدرس الذي حضرنا قسمًا منه، ومع ارتشاف الشاي المخمّر على طابقين، طرحت على السيّد طباعة ونشر أحد مؤلفاته المخطوطة التي كان حدثنا عنها في جلسات سابقة، فوافق من فوره، واقترح أن يكون كتابًا في العقائد، وهو “الإحكام في علم الكلام”[8]، وهذا ما حصل فعلًا أواخر عام 1992 حيث استلمت مسودة الكتاب لإعدادها للنشر.
أيضًا، وعلى ذمّة دفتري، كنّا دخلنا عام 1993 اتصل السيّد هاتفيًّا من منزله في حارة صيدا، وسأل عن بعض التفاصيل ومنها موعد إصدار الكتاب، فقلت: “إنّ الكتاب في طور الإخراج النهائي”، وأخذنا الكلام إلى أنْ قلت له إنّنا أضفنا إلى اسمه لقب “العلّامة”، ليصبح اسم المؤلف كالتالي: العلّامة السيّد محمّد حسن ترحيني. وما كدت أنهي كلامي، حتى تغيّرت نبرة صوته غاضبًا ومستنكرًا، وهو يقول: “من قال لك أنّني علّامة؟!، أنا (….)[9]، أنا يا عزيزي لا أؤمن بأي لقب، فضلًا عن أنّني لا أدعيه، فالألقاب تطلق على المرء بعد موته وليس في حياته، فكيف تقدم على هكذا أمر دون إذني أو حتى علمي ووووو؟!”، وتابع: “أنا أدفع للدار بدل كلّ الأتعاب والتكاليف وسأتلف الكتاب ولن أنشره مع لقب “العلّامة”..!، فهدّأت من غضبه قائلًا: “أصلًا لم نبدأ بالطباعة، ومن السهل استدراك الأمر وحذف ما تريدون”، هدأ السيّد قليلًا، وقال: لا بأس، كنتَ وعدتني بزيارة إلى منزلي، فعندما تُشرّف نناقش وأشرح وجهة نظري في الأمر بإذن الله. وعلى هذه الجملة انتهت المكالمة، وضعت سمّاعة الهاتف وأنا أقول: “يا سبحان الله، السيّد ترحيني الذي خرّج العشرات وربما المئات من العلماء يقول عن نفسه هذا الكلام، ولا يقبل بأي لقب مع اسمه، بينما فلان وفلان وفلان ينافحون ويحاربون لزيادة الألقاب إلى أسمائهم على كتبهم، وهم دون علم السيّد وفضله بمسافات؛ إنْ قلت ضوئية فلا تثريب عليك. ومن تلك الحظة بالتحديد وقع حبّ السيّد محمّد حسن ترحيني في قلبي، بعد أن كان واقعًا في عقلي بلا ريب.
بعد أيام توافقت مع الشيخ محمّد القبيسي وتشرّفنا بزيارة السيّد في منزله الكائن في آخر حارة صيدا، وما أن جلسنا على عبارات الترحيب الجميلة؛ حتى افتتح السيّد الكلام قائلًا: “أولًا أنا آسف إنْ غضبتُ قليلًا في آخر مكالمة بيننا. فقلت: “إنّ هذا الغضب أسعدني سيدنا، وأنا أشكرك عليه؛ لأنّني كدت أشكّك في أمور كثير؛ فأعادني إلى صحيح القاعدة التي تقول: “إنّ الذي لا يشرّفه اسمه؛ لا تشرّفه ألقاب الدنيا”. وتابع السيّد قائلًا: “من الناحية التاريخية، وعمومًا، فإنّ لقب “العلّامة” عند الشيعة قد أشتهر عن شخص واحد في حياته؛ وهو العلّامة الحلي[10] رحمه الله، والأسباب كانت جديرة، حيث تسلّم زمام المرجعية العليا وهو في حدود الثامنة والعشرين من عمره، ومناظرته الشهيرة مع علماء إيران في قضية طلاق زوجة السلطان محمّد شاه خدا بنده، ومن ثم تشيّع السلطان وبعده عموم إيران أشهر من أنْ تكرر..، وبقي لقب “العلامة” مصاحبًا للحلّي إلى يومنا هذا..”، وتابع السيد: “أمّا في هذا الزمن فقد أصحبت الألقاب رخوة والأنفس أرخى، وأصحابنا يتقاتلون عليها ومن أجلها.. فلهذا ولغيره رفضتُ، وسأرفض وضع أي لقب قبل اسمي على هذا الكتاب أو غيره.
وفي آخر لقاء طويل (استمر لساعتين) خصّني به السيّد الجليل كان عام 1994، وأخبرني أنّ فلان (أحد أقاربي) قد زاره وأحضر له هدية ثمينة تقدر بآلاف الدولارات، فردّها السيّد عليه ولم يقبلها، وأضاف: “أخشى أن يكون قد أخذ على خاطره مني، ولكنّني لا أقبل هدايا ثمينة من أحد، فأرجو في حال لقيته أن تشرح له الأمر، وبلّغه سلامي ومحبتي”. ولاحقًا كان للسيّد ما أوصاني وأراده.
وبعد كلّ ما تقدم من عفّة نفس، ونفيس علم، وعلو هامة، ورغم الاختصار قدر المستطاع، بقي أنْ نقول: إنّ السيّد ترحيني قد داهمته الأمراض لسنوات وهو في عزّ عطائه، ولولا هذا، لكنّا رأينا العجب في نتاج علمي معرفي أصيل قلّ نظيره بين الأقران، وربما حتى بين السابقين عليه، لأنّ من يقرأ السيّد ترحيني محقِّقًا، ويفهمه مجتهدًا، بغض النظر عن تأييده أو معارضته لرأيه، لكنّه حتمًا سيعرف عن أي أريحية نافذة أتكلم، وعن أي ذهن مستنير وقّاد أتحدث، وعن ندرة أي شخصية أكتب، وحتمًا سيجد العذر في مؤلفات السيّد المنشورة، أمّا غير المنشورة؛ فالعَمري فهذا وجع الروح، وتلك فرصة المحبّة لذويه ومحبيه، أن يعملوا ليل نهار لطبعها ونشرها بين الناس مهما كانت الأثمان، لأنّها ثمرة حياة وميراث وتراث وأمانة السيّد الحقيقية.. وبما أنّ الوقت لا ينتظر، فالأولى للمحبّة ألا تنتظر أيضًا.
ختامًا، هذا نذر يسير متواضع في محضر السيّد الخصب، وذكرى ساعات أو أيام قضيتها مع سماحة السيّد محمّد حسن ترحيني رضوان الله عليه، ولا أزال أستفيد منها حتى ساعتي هذه، وكم كنت أتوق أن يقرأها فيما لو تمكنتُ من نشر مذكراتي في حياته، ولكن لله حكمة، وعلى السيّد رحمة، وحقّ لنا أن نقول عنه بعد رحيله: العلّامة.
محمد حسين بزي
7/5/2022
[1] – مدير عام دار الأمير في بيروت.
[2] – توفي فجر الاثنين الواقع فيه 2/5/2022، عن عمر ناهز 69 عامًا، قضى معظمه في التعلّم والتعليم والتبليغ والتأليف، تاركًا العديد من المؤلفات والأبحاث المنشورة وغير المنشورة، أهمها: الزبدة الفقهية في شرح الروضة البهية (9 أجزاء)، دار الهادي. عظمة الدين الإسلامي، دار الكاتب العربي. الإحكام في علم الكلام، دار الأمير. وثلاثة كتب حول النهضة والشعائر الحسينية.
[3] – بدأ التدريس في المعهد الشرعي الإسلامي -الحوزة العلمية التي أسّسها السيّد محمّد حسين فضل الله- أواخر عام 1987 حيث ألقى على مدى ثمان سنوات دروسًا في السطوح والسطوح العليا، فقهًا وأصولًا حتى نهاية العام 1994 فتخرّج من درسه العشرات من العلماء والمبلغين اللبنانيين والعرب وغير العرب.
[4] – الجلسات وحتى اللقاءات كانت تتفاوت في مواضيعها، كما كانت تتفاوت في الحضور من المذكورين من شخص لآخر بين جلسة وأخرى.
[5] – في أواخر عام 1973 سافر السيّد ترحيني إلى النجف الأشرف، وتابع فيها دراسة كتاب اللمعة الدمشقية والسطوح على يد العلّامة السيّد محمّد رضا الخرسان، وفيها لبس الزي الديني وتعمّم على يد المرجع السيّد محمّد باقر الصدر. وفي أوائل عام 1975 عاد من العراق إلى لبنان ومكث فيه ما يقارب العام. وفي أيار من عام 1976 شدّ الرحال إلى الحوزة العلمية في قم المقدسة، فقضى فيها عشر سنوات من البحث والدراسة والتدريس والكتابة، حيث أكمل دراسة مرحلة السطوح والسطوح العليا على كل من السيّد مهدي الروحاني، والشيخ علي الأحمدي الميانجي. ثم حضر دروس البحث الخارج على السيّد محمّد الروحاني في علم أصول الفقه، والسيّد رضا الصدر في الفقه، وواظب على حضور مجالسهما. كما اتّصل في فترة إقامته في قم مع العلّامة الشيخ محمّد جواد مغنيّة الذي كان يتردّد على الحوزة ويقيم فيها، فاستفاد من مجالسه وفوائده. وفي حزيران من العام 1986 عاد من قم في إيران إلى وطنه لبنان.
[6] – حرب المدن في الحرب العراقية الإيرانية، المرحلة الخامسة: من يناير 1988 إلى فبراير 1988 التي استمرت 50 يومًا، وكانت أشدّها عنفًا.
[7] – تفاصيل هذه اللقاءات أعدتُ كتابتها في مذكراتي، وإذا ما كان في العمر من بقية باقية سأسعى إلى نشرها في أقرب وقت ممكن. وهذا المقال في معظمه مستل من تلك المذكرات.
[8] – صدرت طبعته الأولى عن دار الأمير في بيروت عام 1993.
[9] – قال وصفًا قاسيًا عن نفسه، لكن مع قسوته فإنّه يخبرك عن مدى نكران الذات عنده.
[10] – الحسن بن يوسف بن مُطهّر الحلي 648 ـ 726 هـ، المعروف بالعلّامة، انتهت إليه المرجعية العليا للإمامية.