الباحثة و الكاتبة نجاة بنونة
ما أحوجني الى ساعة من ساعات ذلك الفضاء الجميل المقدس! ولا أروع ولا أكثر وقعا في النفس والعقل من فضاء الذكريات الجميلة! ولا أجمل ولا أسمى من فضاء هو قبلة للشباب، وهو الذي وصفه أبو العتاهية برائحة الجنة! أجل إنه ذلك الفضاء الذى يشع نورا ويفوح عطرا، وكأنه جنة من جنات الخلد!!! إنها الجامعة التي تنقل الانسان من الطفولة والمراهقة إلى الشباب لصناعة مستقبله بكل حرية ومسؤولية! نعم ! إنها الجامعة التي تشع حبا في العلم، وتشع عظمة وجلالا بسعة تخصصاتها، وتشع حسنا وجمالا بنجومها وكواكبها ومصابيحها وشموعها !!! لقد تمازجت فيها محاسن العمران بفضائل العقل والروح كما تتألف في الشعر نغمات الوزن برقة المعاني!
للجامعة ثلاثة وظائف، أولها الوظيفة الخلقية والثانية الوظيفة العلمية والثالثة الوظيفة الثقافية. بما أن الاخلاق هي المقياس الأول والحقيقي للإنسان فمن واجب المنظومة التربوية والتعليمية أن تعنى بالتسلح الخلقي وبترسيخ القيم النبيلة والجميلة عند النشء منذ نعومة اظافره كي تنمو معه بالتدريج. وهكذا التطبع مع الوقت يصبح طبعا. وأفضل وسيلة لترسيخ هذه القيم هي تقديم النموذج العملي في شخصية المربي . ونحن نعلم ما لهذا المربي من أثر فعال في تكوين الأجيال، بدليل ان أمير الشعراء أحمد شوقي تغنى به في قصيدته المشهورة.
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا
وهو لم ينظم قصيدة في حق المهندس أو الطبيب أو القاضي أو… أو…ولكن لأمر ما اختار المعلم للعلامة الفارقة التي يخلفها في نفس المتعلم في تلك السنين المبكرة من نموه .
واذا كانت الدول المتقدمة حققت نتائج باهرة في التطور على جميع الأصعدة، فلانها أولت عناية قصوى لهذا القطاع الحيوي والحساس في دفع عجلة التطور وبوأت أعلى المراتب وأسمى الدرجات رجال ونساء التعليم، أولئك الجنود المجندة التي وهبت حياتها لبناء مواطنين صالحين، نافعين، شغوفين بالعلم و المعرفة ، واثقين من انفسهم ومستعدين لخدمة وطنهم بكل ثبات وإخلاص ايمانا منهم برسالتهم النبيلة.
ولكن إذا حللنا الوضع الحالي ببلادنا تحليلا منطقيا، وجدنا انفسنا واهمين، لأن غاية الطلبة غاية مادية في غالب الأحيان وشغلهم الشاغل هو الفوز بنقطة حسنة في الامتحان وبأي طريقة. لقد أصبحت تلك الوثيقة محور اهتمامهم ويحسب لها الف حساب. فلا رغبة لهم في طلب العلم لذاته الكبرى من اجل التنوير ولا متعة لهم في كسب المعرفة لإرضاء الفضول المعرفي الا عدد قليل منهم؛ بل أكثر من ذلك يبذلون قصارى جهدهم في كسب مهارة الجواب، تساعدهم على ذلك جميع مكونات المنظومة التربوية فضلا عن الإباء و الأمهات. والتقرير التالي الذى يصدر بصفة دورية منذ 2010 عن اليونسكو لغاية 2030، يعتبر من أهم التقارير العالمية الموثوق بها لأنها ترصد وتحلل أهم المؤثرات على سياسة العلم والتكنولوجيا والابتكار وخطة النمو الفعالة والتيارات العالمية في تمويل البحث العلمي والاستثمار في الموارد البشرية. وهذا التقرير الذى يحتوي على أكثر من 700 صفحة يقدم صورة شاملة لواقع منظومة العلوم حول العالم بما فيها واقعنا العربي.,
إن عدد سكان العالم العربي وصل إلى 415 مليون نسمة، يصل ناتجهم القومي ل2.6 ترليون دولار وإسهامات التكنلوجيا في هذا الناتج العربي لا يتجاوز 0.1% .
وهذه بعض الإحصائيات للدول المتقدمة، حيث تحتل الولايات المتحدة الرتبة الأولى في الاستثمارات ب28% من إجمالي الاستثمارات العالمية في مجال البحث العلمي تأتى بعدها الصين بالنسبة 20% متقدمة على الاتحاد الأوروبي بنسبة 19% واليابان التي كانت في مؤخرة الدول المتخلفة في نهاية القرن 19 بنسبة 10%. أما بقية بلدان العالم والتي تمثل 67% من إجمالي سكان العالم بما فيها العالم العربي فإنها تساهم فقط بنسبة 23% من إجمالي الاستثمار العالمي في البحث العلمي والتكنولوجي .
إن هذه الإحصائيات والأرقام تناشد المسؤولين للنهوض بهذا القطاع الحيوي إذ لا سبيل للتقدم والازدهار إلا بتخصيص ميزانية كافية ومحترمة للاستثمار في البحث العلمي والموارد البشرية من باحثين ومخترعين بتامين حياتهم المادية والمعنوية حتى يستعيد العالم العربي والإسلامي ريادته في التقدم العلمي كما في السابق.
ومرد سبب هذا التخلف هو غياب رؤية واضحة عند المسؤولين لبناء مستقبل واعد بالتقدم في شتى المجالات، وإلى جانب ذلك يوجد سبب آخر، راجع بالأساس إلى أسباب خلقية أولا واقتصادية ثانيا.
أولاـ خلقية : لان هذا الطالب نشأ على الانانية في بيت يوجه له كل العناية ولا يقيم وزنا الا للمظاهر كالطعام واللباس وما شابه ذلك غير عابئ بالجوهر وهو العقل والروح. فكيف لشخص عاش في هذا الوسط ان يفكر في تغذية عقله وروحه وهو عن وجودهما غافل؟ وإذا ذهب إلى المدرسة فإنه لا يجد ما يتحدث عن قيمة الدراسة وبالتالي لا يجد من ينمى ذوقه لحب هذه المدرسة والثمار الروحية والمعنوية التي قد يجنى منها إن هو ثابر واجتهد. إن هذا التيار أصبح ظاهرة مرضية قادت المنظومة التربوية والتعليمية إلى الدرك الأسفل، ففقدت رسالتها النبيلة وكانت لها تداعيات خطيرة ومضرة بالمجتمع، لأن تقدم الأمم رهين بجودة و سلامة هذه المنظومة.
ثانيا ـ اقتصادية: لأن الهدف الوحيد لدى الطالب وأولياء أموره، هو الربح المادي لإشباع الرغبات الأساسية واستجابة للأهواء تماشيا مع تربيته الأولية. يعزز هذا التيار المحيط الذى يعيش فيه الطالب بكل مكوناته للأسف الشديد. أن الطفل منذ نعومة أظافره ينشأ على حب الوظيفة وفوائدها المادية والسلطوية، وبالتالي، يعمل كل ما بوسعه للعمل من أجل كسب رهان الامتحان؛ لا يهمه سوى الحصول على النقطة الأولى. ومما زاد الطين بلة، تلك المعايير التي حددتها الوزارة المعنية للولوج الى أرقى الجامعات وأرقى المعاهد. فأفرغت هذه المنظومة من مضمونها النبيل وجردتها من جمالها وذهبت بقدسيتها. فالعلم للعلم أصبح شبه منعدما والثقافة للثقافة أنذر من النذرة. وبطبيعة الحال فإن تداعيات هذا الوضع انعكست سلبا على جميع القطاعات الأخرى من إعلام وفن وموسيقى ومسرح وأعمال تلفزيونية؛ فالرداءة والتفاهة والسقوط هم أسياد الموقف. أصبح الفن تجارة مربحة والاعلام مؤسسة لترويج هذه التفاهة مع العلم ان الاعلام له دور حساس في التربية والتوعية وتنوير العقول فضلا عن ردع المسؤولين والرجوع بهم إلى الصواب خدمة للصالح العام و بطبيعة الحال اننى لا اعمم ، ولإصلاح هذا الوضع، على الجامعة أن تقوم بوظيفتها الخلقية كي تعيد الأمور إلى نصابها.
في اعتقادي يأتي الشعور ب”نحن” في صدارة أولويات القيم، لأن الطفل في أولى مراحل حياته يغلب عليه الشعور” بالانا “يقود جميع حركاته وسكناته اعتقادا منه أن كل شيء في العالم موجه لذاته؛ لكن مع الوقت تتحول” الانا” تدريجيا الى “نحن” بفضل التربية الحسنة والتوجيه الحكيم والقدوة الصالحة، فيدرك ان وجوده رهين بالغيرية من أسرة ومدرسة ومجتمع وكل مكونات المحيط الذى يعيش فيه .
إذن مهمة المدرسة بجميع اشكالها ومستوياتها تكمن في رعاية هذا المتلقى بترسيخ أخلاق الإنسانية التي تشعره أن لا قيمة لحياته الا اذا ارتبطت بحياة الناس والعمل لإسعادهم واضعة نصب عينه العمل على ترقية الناس روحيا وفكريا وماديا بمعنى تجنيد نفسه لخدمة الصالح العام بتقوية الحس الوطني تفاديا لهجرة الادمغة ..و اذا كانت المدرسة الابتداءية و الثانوية غرست هذه القيم الجميلة فعلى الجامعة تعزيزها و تقويتها في هذه المرحلة من حياة الطالب الذى سيصبح مسؤولا في البلاد.
و على سبيل المثال، كنت أحث الطلبة على التطوع بالانخراط في الجمعيات سواء بخبرتهم أو مالهم أو وقتهم للتوعية الجماعية لأن مجتمعنا بحاجة لهذه الأيادي البيضاء.
عامل آخر غاية في الأهمية هو احترام الملك العام كالشارع، الحدائق العامة والمؤسسات العامة. تحضرني حكاية للعالم الجليل والمصلح الكبير محمد عبده، اثناء سفره على متن سفينة شاهد أما افرنجية تؤنب طفلها على قطف وردة تأنيبا شديدا مذكرة إياه أنها ملك لركاب السفينة كلها، ولا يجوز له قطفها. وأنا شخصيا عشت تجربة مماثلة بالمعهد الذى كنت أدرس به، والامر يتعلق بالحفاظ على الطاقة. لاحظت باستمرار عدم الاكتراث بها في غياب سلوك متحضر؛ فكنت لا أكف عن تحسيس الطلبة على اعتبار المعهد بيتهم الثاني يسلكون فيه نفس السلوك وأعني إطفاء النور عند مغادرة المدرجات .
عامل آخر على درجة من الأهمية جلي في حقل الاحسان : فالشعور ب” نحن” يدفع الفرد للتفكير بالفقراء لا بالفقير وبالمرضى لا بالمريض و….و…فيتبرع سواء بماله أو خبرته أو وقته لفائدة جمعيات تسهر على رعاية هذه الفئات المحتاجة بتسيير محكم .
إذن، من واجب المربى أن يضع نصب عينه التربية الاجتماعية لضبط الاهواء الفردية واشعار المتلقي بأنه جزء لا يتجزأ من المدرسة والاسرة والمجتمع ككل. فإذا اعتاد على العمل والتفكير في الاخرين أصبحت عنده مراعاتهم مألوفة وعادية مع تقدمه في السن ونمو قدراته الفكرية والروحية وهنا يحضرني حديث النبي عليه أزكى السلام :” من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم” كما تحضرني مقولة للعالم الجليل الفيزيائي اينشتاين يقول فيها :” ان قيمة الحياة تكمن في الاهتمام بالآخر SEULE UNE VIE CONSACREE AUX AUTRES VAUT LA PEINE D’ETRE VECUE”.
وانطلاقا من هذا المنظور، كنت أخصص الحصص الأولى من السنة الدراسية (حوالي 4 حصص ) للأخلاق من زوايا مختلفة: اذكر منها : فن التعامل على المستوى الشخصي والمهني، فوائد الرياضة البدنية والفكرية، استغلال الوقت في المفيد النافع، محاسبة النفس SWOT (نقط القوة و الضعف الفرص و التحديات )، الحمية الصحية، الاعتناء بالمظهر الخارجي، الموسيقى، الضحك، حب الطبيعة ، كيفية استعمال وسائل الاعلام بذكاء و حكمة …وما شابه ذلك. وكنت ألقي هذه الدروس باللغة العربية كي تكون أكثر وقعا في نفوسهم؛ و كذلك كان والحمد لله: “أن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا”. بطبيعة الحال كنت أرجع إلى هذه القيم أثناء الدروس كلما سمحت لي الظروف لا سيما في دروس التسييرMANAGEMENT AND HUMAN RESOURCES DEVELOPMENT ) المرتبطة بالعلاقات الإنسانية. كما كنت اعززها بورشات تطبيقية اذكر منها تكريم عاملات النظافة بالمعهد. طلبت من الطلبة قلب الأدوار بخدمتهن في ذلك اليوم اعترافا لهن بخدمتهن طيلة السنة، بل سنوات تخرج فيها أجيال وأجيال. وكان وقعها جد طيب بالمعهد. وأدركت قيمة هذه الدروس بعد سنين من الممارسة من خلال شهادات من الطلبة جد مؤثرة يؤكدون أ فيها ان الثمار التي جنوها من تلك الدروس عادت عليهم بالنفع الكبير؛ مما جعلني أشعر بقدر من الرضا عن أداء مهمتي التي وهبت لها حياتي بكل ما أملك من طاقات وحب لهذه المهنة “والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات”.
خلاصة القول ، أن قيمة الانسان في أخلاقه التي تزرع بذورها الأولى الاسرة وتعمل على ترسيخها المدرسة والجامعة؛ وتحضرني معادلة رياضية للعالم الجليل الخوارزمي في الاخلاق تثبت أن الانسان :إذا كان ذو اخلاق فهو رقم 1، وإذا كان ذو جمال 10، واذا كان ذو مال، 100 وإذا كان ذو حسب ونسب 1000، لكن إذا ذهب رقم 1 وهو الاخلاق فلا يساوى إلا الاصفار.
و هذه الوظيفة الخلقية للجامعة تقتضى منها أيضا ان تدفع الطلبة لبلورة راي عام يقوى ضمائرهم و يوجههم التوجيه الصحيح (و في هذا السياق اقترحت عليهم انشاء “محكمة “يتراسها بعض الطلبة المنتخبين للنظر في خلافاتهم و كنت اساعدهم في بعض الأمور المرتبطة بالإدارة .) ان هذا الراي العام سيحتقر الطالب في حالة ارتكابه أي خطا لان اثره في النفوس يفوق سلطان القانون الذى يصعب عليه ضبط معظم الزلات الخلقية بالجامعة :ككلمة نابية او كذبة او غش بالامتحان ؛ و هي ظاهرة أصبحت متفشية بالمدرسة للأسف الشديد .و على ذكر الغش فاننى كنت أذكر الطلبة اثناء الامتحان بان وجودى ليس للحراسة و لكن للاستئناس لانى على يقين ان اخلاقهم العالية توفر لهم المناعة الكافية لابعادهم عن الدنايا وهم ابعد ما يكونون عن الغش او ما شابه ذلك .
مؤكد أنه متى كان الانسان على درجة من هذه الاخلاق كان أقدر على مواجهة التحديات في حياته الشخصية والنجاح في حياته العلمية والاتقان و الإخلاص في حياته المهنية .و أي مشروع تنموى لن يؤتي تماره الا ببناء الانسان الصالح المستقيم. الم يقل الله تعالى لرسوله الكريم “انك لعلى خلق عظيم “.
وبعد الوظيفة الخلقية تأتى المهمة العلمية للجامعة ولو أنه في رأيي المتواضع لا يجب فصل الجانب الخلقي عن الجانب العلمي؛ فالعلم والخلق متلازمان، لأن الضعف الخلقي يتبعه الضعف العلمي والعكس.
من الناحية العلمية، فإن وظيفة الجامعة تختلف عن الوظيفة العلمية للمدارس الابتدائية والثانوية. فالجامعة تركز على البحث العلمي بوضع القضايا العلمية والأدبية موضع بحث وتحليل، وجل الوقت في الجامعة لا يقضى في المدرجات والفصول، لكنه يقضى في مكاتب الأساتذة والمكتبات العامة أو الجامعية والمعامل في حالة المعاهد التقنية… وقديما قالوا: “إن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك “، وهذا ينطبق على التعليم الجامعي الذى يهدف إلى بناء الانسان القوي ،الشغوف بالعلم يصب اهتمامه في البحث العلمي مستعينا بالسلف الصالح والنهل منه لتوسيع مداركه وتنويع افاقه واستلهام النموذج الصالح لحياته.
أستاذية الجامعة نوع من الرهبنة تقود هذا الأستاذ الى الاعتكاف بدور العلم وخدمته غير عابئ لا بمال ولا سلطة ولا جاه ولا علاوات أو درجات، شريطة أن توفر له الحكومة جميع الظروف اللازمة والمناسبة لراحته الضرورية (وعلى رأسها ميزانية محترمة للبحث العلمي) لتحقيق هذا الغرض. وهكذا يتفرغ لخدمة العلم وخدمة الامة والإنسانية جمعاء عن طريق العلم؛ غرضه الأول العلم لذاته العظمى إيمانا منه أنه لا يخفف الام الإنسانية إلا الإخلاص في الفكر والإخلاص في العلم وابراز الحقيقة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ولقد سبب هذا المنهج متاعب كبيرة وكثيرة للمفكرين والمصلحين في تاريخ البشرية. لكن إيمانهم الراسخ والثابت بصحته وسلامته هون عليهم كل هذه المعاناة؛ فهو مثل حي للتضحية وسمو الخلق والعلم جميعا. انه منار يهتدى به المدرسون والطلبة في تكريس حياتهم قلبا وقالبا لهذه الرسالة النبيلة بهذه المؤسسة المقدسة .
أما العامل الثالث، فهو تحفيز الطلبة على استمرارية طلب العلم بشغف للإبداع والابتكار والخلق تيمنا بالسلف الصالح الذى خلف لنا كل ما هو جميل ونافع.
وبالشغف، وهو تلك الطاقة الإيجابية والشعور بالقوة التي تنبعث من الباحث يستطيع أن ينقل هذه الطاقة لذلك الطالب ليثير حماسه للسير على منهجه. وكلما زاد شغف الباحث بالعلم زادت كمية الطاقة الإيجابية التي ستنعكس حتما على المتلقي.
إن للشغف عظيم الأثر في حياة الانسان بصفة عامة والباحث بصفة خاصة، فهو يشكل الوجود ويوقد الالهام ويفتح الفرص العظيمة الصادرة عن الحماس والاثارة للحياة. وعلى قدر الشغف بالبحث العلمي يأتي التفوق والتميز ، لأن الشغف يلازمه النجاح. وهذا الشغف بذاته هو الدافع لجيل من العلماء وهب حياته للعلم فتعددت اهتماماته ليصبح موسوعة استفادت منه البشرية جمعاء، كابن الرازي وابن سيناء والخوارزمي…، والقائمة طويلة. لقد شكل قدوة ملهمة لللاحقين من الباحثين لأن الشغف بالعلم ظل قائما حتى القرن الخامس الهجري؛ لكنه فقد بريقه مع الوقت ولم يعد يؤد وظيفته المألوفة؛ بينما تقدم الغرب في شتى فنون العلم والمعرفة بالحفاظ على هذا الشغف الكبير بالدراسة والبحث تسانده حكوماته إيمانا منها بقيمة العلم وعائداته على الشعوب مخصصة ميزانية كافية و محترمة للاستثمار في البحث العلمي والموارد البشرية بتامين حياتهم المادية والمعنوية فضلا عن اغراقهم بالجوائز المادية والشواهد التقديرية. ان صيانة هذا العشق للعلم قاده و سيقوده حتما للمزيد من الاكتشافات التكنلوجية والحقائق العلمية. بالشغف يزداد الباحث ثقة بنفسه فيصنع المعجزات متجاوزا كل التحديات بجرأة وشجاعة للمغامرة والمخاطرة لتحقيق الهدف .وما تفوق اليابان وألمانيا والصين في المجال العلمي والاقتصادي والتكنلوجي والاجتماعي الا نتيجة هذه السياسة الرشيدة والتى ناضل من اجلها جماعة من المفكرين الاحرار اذكر منهم لا على سبيل الحصر الأستاذ الجليل المهدى المنجرة الذى انجز بحثا قيما صدر عن نادي روما تحت عنوان “من المهد إلى اللحد” ترجم لعدة لغات نطرا لأهميته.
كنت دائما اشجعهم على المضي قدما في البحث لان العلم لا حدود له ولا أكف عن ترديد مقولتين غاية في الأهمية لا قناعهم؛ احداهما للأمام الشافعي رضي الله عنه يقول فيها : “كلما ازددت علما زادني علما بجهلي ” والأخرى للعالم الجليل سقراط يقول فيها :”كل ما أعلم انى لا أعلم شيئا ” وسرني أنهما علقتا بأذهانهم. كما كنت أشرح لهم أن شهادتهم ليست إلا بداية لمسيرة علمية تلازمهم طيلة حياتهم وحتى بعد مماتهم انطلاقا من قول الرسول الكريم :” إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له “. وفى نفس السياق يقول العالم الفيزيائي اينشتاين :
‘’Soyez des mortels immortels c’est ce qui nous distingue des animaux’’ مازلت أذكر ذلك الشعور الرائع الذى انتابنى عندما اصطحبنى أحدهم لمكتبي ليسألني إن كان بإمكانه الحصول على جائزة نوبل (لأنني كنت احفزهم على تحقيق إنجازات علمية مهمة كل في مجال مخاطبة إياهم :”أتنبأ لكم بمستقبل علمي زاهر ومميز متوج بجائزة نوبل “) فأجبته على الفور :”مؤكد بالاجتهاد والإصرار وما الفرق بينك وبين الفائزين بها ؟!!! “.
إن الانسان بجوهره رسالة وهذه الرسالة هي إسعاد البشرية عن طريق العلم فاذا أهملها أو تخلى عنها فقد يهبط إلى الدرك الأسفل ويرتبط بالكائنات الحيوانية التي لا تهتم إلا بإشباع رغباتها المادية غير عابئة بالكائنات الأخرى. ولكن إذا كان الله قد خلق الانسان على نمط مخالف بل وميزه عليها بمعطيات نؤهله لاستخدام هذه المخلوقات والظواهر الطبيعية، فعليه ألا يتهاون في ذلك ويضيع فرصة الاستمتاع بها، شريطة أن يسلك طريق أسلافه بالعمل المتواصل والاجتهاد والتضحية كي يكتشف حقائق علمية جديدة تتوارثها الأجيال بل وتأخذها كقاعدة علمية تنميها وتستخرج منها نظريات أخرى تثبت قوة الانسان الفكرية الخلاقة وتدفع إلى الاستمرارية في البحث كي لا تتقاعس الأجيال الموالية وتكتفى بالمكتسبات التي أخذتها عن سالفيها.
خلاصة القول إذن، أستاذ جامعي يهتم بالجانب الخلفي والعلمي معا بطاقة إيجابية تلهم الهمم، ورأي عام للطلبة يقوم اعوجاجهم ويصلح أمورهم و إدارة رشيدة تلبي حاجياتهم : عوامل أساسية لأداء مهام الجامعة الخلقية والعلمية .
أما الوظيفة الثقافية للجامعة، وهي لا تقل أهمية عن الوظيفتان الخلقية والعلمية فإنها تساهم في توسيع نظرة الانسان وتقييمه للأمور تقييما متعدد الابعاد .
مبدئيا للثقافة قيمة مالية تحدد لكل شهادة نالها الطالب أجرا معينا متعارف عليه تقريبا في جميع انحاء العالم، يتفاوت حسب النمو الاقتصادي في كل بلد. وللثقافة أيضا قيمة اجتماعية تقلص الفوارق الطبقية فترفع من كان في طبقة وضيعة إلى طبقة رفيعة كما تجعله مؤهلا للزواج من طبقة راقية بفضل مستواه الرفيع على الصعيد المادي والمعنوي.
لكن وظيفة الجامعة الثقافية أمر آخر تقتضى من الأستاذ أن يرقي نظرة الطالب لنفسه بتطوير عينه النفسية بجانب عينه الحسية؛ فعينه الحسية لا تبصر إلا الاشياء الملموسة كالألوان والاحجام، و ما شابه ذلك إما عينه النفسية فإنها تنظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة فتدرك معانيها السامية المتعددة. الابعاد . وهذه النظرة بالذات ،هي التي تحدد قيمته في الحياة. وفرق كبير بين من تسعده وظيفته بقيمتها المادية وبين من يسعده ذلك الأثر الذى يخلفه عمله مهما كان بسيطا ؛ نحتاج فقط أن نفكر في هذا الأثر.
فالكناس مثلا لا يقوم فقط بتنظيف الشارع وجمع الازبال ولكن هو شخص يجمل مدينة بأكملها و يجنب سكانها الامراض والأوبئة، هو عمل بسيط في مظهره لكن عظيم في اثره !!! المعلم كذلك لا تقتصر مهمته على تعليم الصبيان وانما هو صانع الانسان !!!الطبيب أيضا لا يقوم بتخفيف الآلام وإنما يعيد الحياة وبهجتها إلى ذلك المريض فيسعد ويسعد الاخرين! كما يحضرني سيدنا عيسى عليه السلام عندما مر بجيفة برفقة جماعة من الحواريين فقال أحدهم :”ما أنتن رائحتها” !أما سيدنا عيسى كانت له نظرة أدهشت رفاقه عندما قال :”ما أجمل بياض أسنانها !” والامثلة كثيرة … وهذه العين النفسية تحتاج إلى مران وطاقة ملهمة توقظ هذه العين عند الطالب فتتغير وتتنوع نظرته إلى الحياة .
وللجامعة دور كبير في إيقاظ هذه العين وتنميتها لتنقلها من النظرة الضيقة والسخيفة إلى النظرة البعيدة السامية المعاني. فعلى الأستاذ أن يحث الطلبة على القراءة الحرة لتطوير وإغناء هذه العين النفسية حتى ينتشله من تلك النظرة الوضيعة والمحدودة إلى النظرات السامية والمتنوعة. وفرق كبير بين من له عين واحدة ومن له عينان !!!و انطلاقا من تجربتى المتواضعة فاننى كنت الفت نظرهم الى جمالية المعهد INSEA بوصفه حديقة تتوسطها فصول و مدرجات لانه حيثما وجهت بصرك ترى الأشجار و الازهار (حتى لا تقتصر نظرتهم على انه فضاء للتحصيل الذى يتطلب منهم مجهودات جبارة )؛ كما كنت ادعوهم للاستلهام بالطبيعة في تنسيق الألوان اعتناءا باناقة مظهرهم كما كنت اسعى لخلق جو من الفرح بروح من الفكاعة ليصبح الدرس متعة و استفادة .ثم انى قمت معهم بتنظيم أنشطة جامعية حملتهم مسؤولية التنظيم و التسيير توجت كلها بالنجاح و الاستحسان مع استيعاب كل الرسائل المنشودة ؛ و لا زالوا يذكرونها بعد سنين من تخرجهم .و ما هذه البوادر الا لتطوير هذه العين النفسية .لكن علي بالاعتراف اننى حظيت بطلبة هم من خيرة أبناء الامة العربية و الإسلامية لان لهم من المواصفات الخلقية و العلمية و الثقافية ما يجعلهم موضع اهتمام و احترام قادنى لمحبتهم و تقديرهم .و بالصدفة بما يشبه العمد ، فان الله تعالى انعم عليهم باساتذة من العيار الثقيل لهم من المؤهلات الخلقية و العلمية و الثقافية ما جعلهم في مستوى أداء رسالتهم على اكمل وجه فكونوا كواكب يستضيء بها بلدنا الحبيب و دول أخرى ، تجدهم في جميع القطاعات مسؤولين كبار يحضون بكل الود و التقدير . وكفى الجامعة فخرا إن كونت أجيالا من هذا العيار!
إن التسلح الخلقي والعلمي والثقافي يضمن التقدم والازدهار والرقي للمجتمع. فالمجتمعات في حركة دائمة. والتغيير عادة يصدر عن الطبقة الراقية. ولا أرقى من الجامعة لتحقيق هذا التغيير الذى يحتاج إلى خطة عمل محكمة من دراسة وتحليل ورؤية واضحة لتحسين الوضع الحالي. وخير إصلاح ما جاء عن طريق التعليم بأداء الجامعة رسالتها على أحسن وجه. فهل من أذان صاغية وضمائر واعية لمشروع جديد واعد ينقذ منظومة التربية والتعليم ؟ (ولا أزعم لنفسي الريادة في هذا المشروع فهناك المئات من الغيورين عن هذا الوطن الذين نادوا به من قبل).
مؤكد بإذن الله ! فالتفاؤل من طبعنا وثقافتنا لان هناك مسؤولين من خيرة أبناء هذا الوطن لهم من الخلال الخلقية والعلمية والثقافية ما يدفعهم للقيام بهذه المهمة. و املنا كبير في تفعيل النموذج التنموى الواعد الذى امر به الملك نصره الله على يد هؤلاء الغيورين عن الوطن .وما أضيق العيش لولا فسحة الامل!!!