أدب وفن

المسافةُ بينَ الخاطرةِ الأدبيةِ و قصيدةِ النَّثر

المسافة بين الخاطرة الأدبية و قصيدة النثر

الكاتبة ثناء أحمد

لطَالمَا اُعتمدَ تَعريفُ الخَاطرةِ: بأنَّها ما يَخْطُرُ في القَلبِ من تَدبيرٍ أَو أَمْرٍ، فإنِّي أَرَى أَنَّها تَتقاطعُ بتَعرِيفهَا هَذا مَع عَددٍ مِن الفُنونِ الأَدبيةِ، وخَاصةً الشِّعرية، فالشِّعرُ أَيضاً اندِفاعاتٌ شُعوريةٍ تِجاه مَوقفٍ أو حَدثٍ أو إحساسٍ. والتَّعريفُ عَلى دِقتِهِ فِي التَّعبيرِ عَنهَا يَختلطُ مع الآدَابِ النَّثريةِ الأُخرى، كالمَقالةِ والشِّعرِ المَنثورِ وَقصيدةِ النَّثرِ .
هنا سَأُحدَدُ الحَديثَ بالتّمييزِ بينَ الخَاطرةِ الأدبيةِ وقصيدةِ النَّثرِ.
الخَاطرةُ فنٌّ حَديثٌ كقَصيدَةِ النَّثر إلا أنَّ بُذورَهَا ظَهرتْ فِي أَحضانِ الصَّحافةِ، وارتَقَتْ بارتِقائِها، واستَقرتْ بَينَ أَعمدتِها، وقد بدأَ ذَلكَ فِي أُوربَا بالقَرنِ الخَامسِ عَشر المِيلادِي، أمَّا عندَ العَربِ فكَانَ مَع العِقدِ الثَّانِي للقَرنِ التَّاسعِ عَشر، حِينَ أَصدرَ الوالي داوود باشا أوَّلَ جَريدةٍ عَربيةٍ فِي بَغدادَ اسمها “جُورنال عِراق” باللغتينِ العَربيةِ والتِّركيةِ.
بَينما قَصيدةُ النَّثرِ بِدايةً نَشأَت فِي أُوربا بالقَرنِ الثَّامنِ عَشر المِيلادي، كرَدَّةِ فِعلٍ عَلى شِعر البَلاطِ، وهو شِعرٌ قِصصِي أَقصَر مِن شِعرِ المَلحَمي، يَحكِي بُطولةً مَا أو بطولةً فرديةً بغنائيةٍ، يَتمُّ الرَّقصُ علَى اِيقاعاتِهِ، وَوُصفَ بتَدنِّي مُستواهُ، وَعدمِ ارتقائِهِ لمُستَوى المَرحَلةِ.
وتَابعتْ سَيرورتَها لتَصلَ لبُودلير وسِواه فِي بِدايةِ القَرنِ العِشرِين، وَمعَ العِقدِ الثَّالثِ مِنهُ، انتَقلتْ إلى العَالمِ العَربِي لتَنشطَ عَلى يَدِّ مَجموعةِ مَجلةِ شِعر وهم ( يوسف الخال و أدونيس و أنسي الحاج ومحمد الماغوط و غيرهم ) مع الإشارةِ إلى اِرهاصاتٍ سَابقةٍ لَم يكتبْ لهَا التَّبلور.
فنَشأةُ الخَاطرةِ أقدمُ تَاريخياً مِن قَصيدةِ النَّثر .
وهِي- وأقصدُ الخَاطرةَ – تَملكُ جِسماً يَبدأُ بالمَقدِّمةِ و يَمرُّ بالعِقدةِ أو العَرضِ ويَنتَهي بالخَاتمةِ، وتَختلفُ مِن شَخصٍ لآخرَ ومِن فِكرةٍ لأُخرَى، من حيِّثُ الطُّول، فهناكَ الخَاطرةُ القَصيرةُ والمُتوسطةُ و الطَّويلةُ. فِي حِين أنَّ قَصيدةَ النَّثرِ لا تَتَقيدُ بِشكلٍ، وتَبتعدُ عَن هَذا التَّصنيفِ لتَعتنِي بالدَّاخلِ لا بالمَظهرِ، بالمَضمونِ لا بالشَّكلِ، وتَميلُ لإطلاقِ المَكبوتِ مُهتمةً باللاشعورِ و الحُلمِ و الهَذيانِ البَاطنِي. وسُوزان برنار فِي مُؤلفِها “قصيدةُ النَّثرِ مِن بُودلير إلى الوقتِ الرَّاهن” تَعتبرُ أنَّ أهمَّ سِمةٍ لهَذا النَّوعِ الأدبِي هُو الإشراقُ السَّاطعُ ( الرُّؤية )، و الرُّؤى الصُّوفيةِ-إنْ صحَّ التَّعبير- والسَّردُ وإن كَانَ أَساساً لهَ،ا غيرَ أنَّه ليسَ سَرداً عَادياً، ولا يَسيرُ بمنطقٍ، غَايته ليسَت الذُّروةُ ولا الخَلاصُ.
وهِي بهَذا تَختلفُ عَن واقعِ الخَاطرةِ المُؤطرةِ بتسلسلٍ مَا.
تَأثرتْ قَصيدةُ النَّثرِ منذُ أوائلِ القَرنِ العِشرين بالمَدرسةِ التَّكعيبيةِ التي طَبعتْ مَلامحَها ليسَ على الفنِّ التَّشكيلي فَقط وإنَّما عَلى هَذا الفَنِّ المُستحدَثِ أيضاً، فانعَكستْ سَماتُها على قَصيدةِ النَّثرِ بتَعددِ قِراءاتِها، وتعددِ رُواتها، وكيفَ لا وهي تُحاكِي الإنسانَ بكلِّ زَواياهُ المُتجاورةِ والمُتناقضَة ؟!! مُستلهمةً من نَظرياتِ فرويد خَطَّاً لا يُمكن أن يكونَ مُحدَدَاً.
إذاً قَصيدةُ النَّثر نُهوجُهَا أو اللا نُهوج عِندَها بدايةً هُو تَكعيبي، وَفيمَا بعد ومع تَبلورِ المَدرسة السِّرياليةِ سِريالِي .. حَالم .. يُضمرُ الحَقيقةَ.
ومن هنا شَكلَّتْ صَدمةً للقَارئِ التَّقليدِي الذي اعتَادَ علَى المَعنى المَمنُوحِ المُهدَى، لا المَعنى الذي يَحتاج للكشفِ.
يَذكرُ الدُّكتور عز الدين اسماعيل في كتابِهِ الأدب و فنونه عن فنِّ الخَاطرةِ ” هذا النَّوعُ الأدبِي يَحتاجُ من الكاتبِ إلى الذَّكاءِ و قُوةِ المُلاحظةِ ويَقظةِ الوجدَان “
ومع هَذا الرَّأي نَعودُ للتَّقاربِ بينَ الجِنسَين، وأقولُ أنّ هذهِ الحَاجةَ للكاتبِ مَطلوبةٌ في جميعِ الكتاباتِ الأدبيةِ و لاتقتصرُ على الخَاطرةِ فَقَط .
وإذا ما تَحدَّثنَا عن أنواعِها كما صَنَّفها المُصنِّفونَ (خَاطرةٌ شَفويةٌ ..كِتابيةٌ ..مُجردةٌ.. مُركبةٌ..رُومانسيةٌ..إنسانيةٌ..و
وجدانيةٌ ..اجتماعيةٌ )، نَختلفُ معَها عن قَصيدةِ النَّثرِ التي اِعتمدتْ الحُريَّةَ والحُلمَ والتَّمردَ والاحتفاءَ بالإنسانِ بَعيداً عَن هذِه التَّصنيفاتِ.
وَعند الأُسلوبِ نَلحظُ فَرقاً و ربُّما فُروقاً ..
للخَاطرة عُنوانٌ مُشوِّقٌ وتَكاملٌ فَنِّي في المُقدِّمةِ و العَرضِ و الخَاتمةِ، فِكرةٌ وَاضحةٌ، تَوازنٌ بينَ الجُملِ، رِشاقةٌ في الصِّياغةِ، تَضمُّ بين سُطورِهَا الكثيرَ من المُحسناتِ البّديعيةِ والبَيانيةِ. أمَّا قصيدةُ النَّثرِ، فتَرتَكزُ على صورٍ شِعريةٍ بتقنياتٍ جَديدةٍ مُخترقةً خَواصَ التَّراكيبِ اللُّغويَّة، مُستعينةً بالرَّمزِ و الأسطورةِ و الانزياحِ اللغوي، وبتَكثيفٍ و إيجازٍ محملينِ بإيقاعٍ دَاخلي، يُعوّضُ عن الوزنِ و القَافيةِ المُفقودينِ مِن مُقوماتِها.
و كأخيراً يُمكنُ القَول : إنَّ الحَدَّ الفَاصلَ بين هذين النَّوعِين الخَاطرةُ وقصيدةُ النَّثرِ حَدٌّ هُلامِ، لا نُدركهُ إلا بالخُبرةِ المُتراكمةِ، وبتَعدديةِ التَّعاملِ بَينهما.
وَمنهُ تَستمرُ إِشكاليةُ التَّمييزِ بينَ الخَاطرةِ وقَصيدةِ النَّثر قائمَة، كاستمرارِ إشكاليةِ قَصيدةِ النَّثر ذَاتَها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى